حقوق الصورة الفنية للمصور زياد متي

مراجعة: نصب الشهيد – الجزء الثالث

المصممون / استشاريو الاعمال المعمارية و النحتية
النحات
اسماعيل فتاح الترك
المهندس المعماري
سامان اسعد كمال
المهندسون المعمارييون
سعد الزبيدي، وجدان ماهر، اسماعيل كنة، ندى زبوني
استشاريو الهندسة الانشائية و الخدمات
اوف اروب و مشاركوه العالمية - المملكة المتحدة
الاستشاري المشرف على التنفيذ الموقعي
أم + اًر استشاريون - بلجيكا بالاضافة الى مصممي المشروع
الشركة المقاولة المنفذة للمشروع
متسوبيشي كوربوريشن و كاجيما كوربوريشن - اليابان

في الجزء الثالث و الاخير من سلسلة نصب الشهيد، تحاور مجلة المدينة المدورة سامان اسعد كمال، المعمار الذي فاز مع النحات و التشكيلي إسماعيل الترك بمسابقة تصميم نصب و متحف الشهيد في عام ١٩٧٨.

بدأت مراجعتنا الشاملة لنصب الشهيد بتوضيح التسلسل التاريخي للنصب منذ اعلان المسابقة عام 1978 الى الانتهاء من التنفيذ و افتتاحه في تموز عام 1983. في الجزء الثاني استكشفنا الجوانب الاجتماعية والثقافية والإبداعية لفهم أثر نصب الشهيد على المدينة و المجتمع و المراحل التي مر بها ليكون أحد اهم المعالم المعاصرة في العراق. ستختتم المراجعة بحوار يوثق نصب الشهيد من تكون الفلسفة و الفكرة التصميمية الى لحظة صدور قرار المحكمة بالسجن على ناجحة عبد الامير الشمري رئيس مؤسسة الشهداء و عدم ايقاف المشاريع التجارية في موقع نصب الشهيد رغم صدور موافقة الامانة العامة لمجلس الوزراء على ايقاف المشاريع الاستثمارية والتجارية.

يغطي هذا الحوار بين احمد الملاك وسامان كمال مواضيع واسئلة لم تطرح سابقا على المصممين ، وان طرحت فهي لم توثق بشكل يسمح للباحثين الاستفادة منها ، او افترضت اجوبتها . اللقاء الأول بين الفنان التشكيلي اسماعيل فتاح الترك والمعماري سامان اسعد كمال هو نقطة الأنطلاق في هذا الحوار.

احمد الملاّك: حدثنا عن بداية معرفتك بالفنان اسماعيل فتاح الترك ، وكيف تطورت هذه المعرفة إلى شراكة لتصميم نصب الشهيد؟

سامان كمال: اول معرفتي بإسماعيل فتاح الترك كانت سنة 1969 عندما كنت طالباً في السنة الثالثة في قسم الهندسة المعمارية في كلية الهندسة – جامعة بغداد، وكان هو محاضراً لموضوع النحت والخزف كجزء من متطلبات الدراسة في القسم المعماري في حينه. بعد تخرجي مهندساً معمارياً كنا نلتقي من حين لآخر في المعارض التشكيلية المختلفة إذ كنت مهتماً بها ومن روادها ومتابعيها.

في عام 1978 زارني اسماعيل في مكتبي و طلب مني أن أصمم له بيته الخاص على أرض تملّكها على أن يضم إضافة للسكن ستوديو ( مشغل ) خاص لإنتاج أعماله التشكيلية والنحتية، وأخذ بعد ذلك يتردد باستمرار على مكتبي لبحث التصميم ومتابعة مراحل التنفيذ ولعدة مرات في الأسبوع.

خلال إحدى لقاءاتنا في تلك السنة (1978) كلّمني اسماعيل عن مسابقة معلنة في وسائل الاعلام موجهة من مكتب الثقافة والإعلام في القيادة القومية لتصميم نصب ومقبرة للشهداء في بغداد (شهداء العراق في حركة 1941 و في معارك فلسطين وسواهم…).

في البداية لم نتحمس للمشاركة كونها مسابقة مفتوحة وبدون ضوابط محددة كما أن لجنة التحكيم غير معروفة. صيغة الدعوة للمسابقة كانت متواضعة وغير مغرية وتدل في مضمونها على تمثال بحجم كبير ضمن مقبرة منظمة لدفن رفاة الشهداء مع الحدائق والساحات و أماكن للاحتفال في المناسبات الوطنية. بعد نقاشات عديدة فيما بيننا استهوتنا فكرة المشروع واتفقنا على العمل سوية على الموضوع، وتم تقديمه في حينه كعمل مشترك لنحات ومعمار.

سامان كمال و اسماعيل فتاح الترك

هل تتذكر بالضبط نقطة التحول و اللحظة التي قررتما بها المشاركة في المسابقة؟

ليس هناك نقطة تحول ولكن استمرار مناقشاتنا للموضوع على عدة جلسات كونت لدينا افكار اولية عن موضوع الشهادة تشكلت معها الرغبة في خوض غمار المسابقة ومجابهة تحدياتها. الموضوع بحد ذاته كان مشوقاً وهو اساس تحولنا باتجاه المشاركة في المسابقة.

ما هو نوع الشراكة التصميمية و طريقة عملكم على فكرة النصب؟

خلال المراحل الأولية للمسابقة كان عملنا بحثياً وتحليلياً للوصول إلى المعنى السامي للشهادة وإلى العناصر الرمزية المعبرة عنه. كنا نجمع المعلومات ونتبادلها حتى تبلورت لدينا المبادئ الرئيسية لفلسفة المشروع والتي بموجبها تم اختيار العناصر الرمزية للشهادة كالقبة والراية والينبوع، وهذه المرحلة كانت مهمة جداً إذ ارتبطت الشهادة بالحياة واستبعدت القبور من المشروع، بعدها أخذت تتبلور الأشكال والفضاءات وتحديد المقياس والمادة واللون.

ما هي الأفكار الأخرى التي شاركت بمسابقة تصميم النصب و هل تتذكر بعض الأسماء المشاركة؟

لم يتسنى لي الاطلاع على تفاصيل الأعمال المشاركة في المسابقة إلا في يوم التقديم في قاعة كولبنكيان للفن الحديث ببغداد وعلى عجل ولم تكن جميع الأعمال المشاركة قد وصلت في حينه. بعدها نقلت الأعمال إلى قاعة خاصة في أحد المباني الحكومية في شارع الزيتون لدراستها وتحكيمها من قبل لجنة خاصة اشترك فيها طارق عزيز و شفيق الكمالي ووزير الثقافة والإعلام وقتئذٍ ولم يتم عرض الأعمال المشاركة على الجمهور.

لماذا قررتم ان يكون نصب و متحف و ليس نصب و مقبرة ملحقة به و هو ما طلبه منظمي المسابقة.

القرار جاء بعد تحليلنا لفكرة الشهادة وكون الشهيد حي يرزق عند ربه مما أدى إلى إلغاء فكرة القبور وتعزيز فلسفة التصميم حول مبدأ الشهادة والحياة ابتداءً بالرموز الدالة عليها في نصفي القبة والراية والينبوع وجدار أسماء الشهداء وانتهاءً بالمعروضات والوثائق والصور في فضاءات ومرافق المتحف والمكتبة وقاعة العرض الدوري وقاعة المحاضرات. ذلك القرار هو الذي ميّز المشروع عن سواه من المشاركات التي ركزت على المقابر والموت.

ما هو تعريفك للنُصب بشكل عام و الهدف منها؟

هي شواخص حضارية بصيغ معمارية وتشكيلية مختلفة تؤشر برمزية مباشرة أو غير مباشرة إلى حدث معين أو مرحلة تأريخية مهمة. الهدف منها قد يكون ثقافياً، علمياً أو سياسياً وقد يكون شكلاً تزيينياً ضمن المكان أو المدينة.

على أساس التعريف أعلاه، كيف تصنف نصب الشهيد؟

صرح وطني وشاخص معماري / فني (تشكيلي)، إحتل مكانة خاصة لدى العراقيين وفي ذاكرتهم الحديثة. أصبح واحدا من رموز مدينة بغداد ومعالمها الحضارية. حقق الهدف الفكري والثقافي من تشييده واضاف بعدا جماليا للمدينة مع مساحات خضراء وبحيرات.

القبة المشطورة من أسفل السلم الرئيسي المحاذي للينبوع

لماذا القبة كعنصر رئيسي؟

ارتبطت القباب في مدننا ومنطقتنا بالمقدسات وبأضرحة الشهداء والصالحين بغض النظر عن حجمها أو مادة بناءها، ففي بعض المواقع هي طينية آجريه أو مغلفة ببلاط طيني مفخور و مزجج بتدرجات لونية زرقاء، وفي مواقع أخرى تكون مكسوة ببلاطات معدنية تم طلاءها بالذهب. أصبحت تلك القباب شواخص بارزة ضمن أٌفق المدينة العراقية تراها بالعين المجردة قبل دخولك إليها فكانت خير رمز لفعل جبار كفعل الشهادة.

كيف تكونت فكرة القبة المشطورة؟

حين استقر المبدأ على اعتماد القبة رمزاً رئيسيا للشهادة كان لابد من التعامل معها بأسلوب غير تقليدي إذ اختلفت الوظيفة من نظام تسقيف تقليدي إلى رمز وشاخص ونصب. مر التصميم بعدة مراحل وكانت هناك عدة مقترحات للتعامل مع القبة وفتحها لتسمح لروح الشهيد بالصعود إلى السماء كان آخرها الشطر إلى نصفين متساويين مع إزاحتهما عن بعض بنسب هندسية مدروسة و ليستقر النصفان فوق منصة دائرية منبسطة واسعة.

ما الذي يميز قبة النصب المشطورة؟

استعملت القباب منذ القدم كنظام انشائي لتسقيف فضاء محدد تحتها، قبة نصب الشهيد بنصفيها ليست كذلك فهي قبة بارتفاع 40 متراً مستقرة مباشرة على سطح المنصة الواسعة ، وهي أول قبة يمكن مشاهدة سطحيها الخارجي والداخلي في وقت واحد. ومن ميزاتها أنها تبدو متحركة حول نفسها أمام نظر من يمر في الطرق المحيطة بموقع النصب في حالة تشبه خداع البصر. للأسف هذا المشهد حُرمنا منه في الوقت الحاضر بسبب منح أراضي النصب لمستثمرين شيدوا عليها أبنية رديئة تحجب النصب عن الخارج.

منظر ليلي للقبة و الخندق

لماذا يمثل كل عنصر معماري في النصب تجريد او رمز معين، لماذا لم تكتفيان بتجريد فعل الشهادة من خلال القبة المشطورة و الراية الممثلة لجسد الشهيد؟

ارتكزت تصاميم نصب الشهيد على فلسفة محددة ركزت على العمق التاريخي والاجتماعي والإنساني والديني للشهادة، إذ عمد التصميم إلى استحضار رموز ذات دلالة، لها علاقة وثيقة بموضوع الشهادة وإعادة توظيفها في المكان بأسلوب معاصر، فكانت القبة والراية والينبوع والخندق، رموزاً ارتبطت عبر التاريخ بموضوع الشهادة والدفاع عن الأرض والوطن، فجاء توظيفها معمارياً وتشكيلياً من أجل تحويل الأفكار الفلسفية إلى عناصر مرئية تؤثر في الزائر (المتلقي) بغض النظر عن عمره وثقافته ومستوى تعلمه وذلك من خلال تحكم التصميم بمواصفات تلك العناصر (الشكل… الحجم… اللون… والمادة …بالإضافة إلى المؤثرات الحسية المضافة مثل الصوت والإضاءة).

ما هو التحدي التصميمي الأكبر الذي واجهكم؟

من أهم التحديات كان موضوع تغليف القبة إذ أن تبديله من الذهب إلى البلاط الكربلائي الأزرق تم خلال مرحلة التنفيذ حيث كانت أسس المبنى قد نفذت والهيكل الحديدي للقبة تم إصدار الأمر بتصنيعه في اليابان وكان على الجميع اتخاذ القرار الصحيح و السريع بخصوص هذا البند الهام الذي يمثل قلب المشروع. تركيب البلاط السيراميكي المزجج لا يمكن أن يتم مباشرة على الهيكل الحديدي، في نفس الوقت لا يمكن العودة إلى الوراء وتغيير هيكل نصفي القبة من الحديدي إلى الكونكريتي. في ذلك الوقت خرجت علينا شركة اوف آروب الاستشارية بمقترح أنقذ الموقف باستعمال ألواح الكونكريت المسلح بألياف الكربون كمادة وسيطة بين الهيكل الحديدي والبلاط الكربلائي. تلك المادة الجديدة لم تكن معروفة في مجال الأبنية لكلفتها العالية في حينه وكان استعمالها مقتصرا على صناعة وبناء هياكل المركبات الفضائية والطائرات.

هل من الممكن ان تذكر لنا توزيع الأدوار التصميمية او الاستشارية على مدى فترة التصميم لحين الانتهاء من التنفيذ لكل من إسماعيل فتاح الترك، سامان كمال، سعد الزبيدي، وجدان ماهر، إسماعيل كنه و ندى زبوني؟

أود أن أؤكد أن هذا العمل الكبير هو نتاج عمل فرقي بامتياز وليس حاصل جمع عمل لجهود مجموعة من الأفراد والأشخاص. إن العمل الفرقي هو عمل تفاعلي ونتائجه تختلف كثيراً عن نتائج الأعمال الفردية المجتمعة، وعلى الرغم من أن كل منّا كان له دور يؤديه حسب وقته المتاح والتخصص الذي يعمل فيه إلا أن الأهم هو الحصيلة النهائية التي خرجنا بها من خلال ذلك الجهد التفاعلي المشترك. ببساطة المشاركات في مراحل المشروع توزعت كالتالي :

مرحلة المسابقة: اسماعيل فتاح وسامان كمال.

مرحلة الإشراف الموقعي وتطوير التصاميم التفصيلية والتنفيذية: واستمر طوال مرحلة التنفيذ، شارك فيه اسماعيل فتاح، سامان كمال، سعد الزبيدي، وجدان ماهر، هذا الى جانب الاستشاريين العالميين وجهاز امانة بغداد .

مرحلة تطوير التصاميم: واستغرق شهرا واحدا شارك فيه اسماعيل فتاح، سامان كمال، سعد الزبيدي، وجدان ماهر، اسماعيل كنه و ندى زبوني

سامان كمال، وجدان ماهر و سعد الزبيدي

في هذه المرحلة ركز اسماعيل فتاح على تنفيذ المجسمات المصغرة للأعمال النحتية والتشكيلية (الراية، الإكليل البرونزي والإطار البرونزي حول الينبوع) مع متابعة تصنيعها بالحجم الحقيقي في المملكة المتحدة من خلال مسابك شركة “موريس سنجر” بالإضافة إلى حضوره بعض اجتماعات الموقع مع المقاول والمعماريين و الاستشاريين وممثلي صاحب العمل هذا بجانب التزاماته الأخرى في الجامعة وفي اتحاد التشكيليين العرب كونه رئيساً للإتحاد مع متطلبات ذلك المنصب من سفرات العمل المتكررة. في المرحلة الثانية (1989- 1992) أكمل اسماعيل فتاح تنفيذ جدار الشهداء من نقش الأسماء ونحت الجداريات ساعده في ذلك مجموعة من الخطاطين والنقارين المحترفين وعدد من النحاتين الشباب من خريجي أكاديمية الفنون الجميلة. توقف العمل في هذه المرحلة (جدار الشهداء) لأكثر من 8 أشهر بسبب الحرب على العراق 1991. ساهم العمل في تنفيذ الجدار في تدريب وتخريج مجموعة من الحرفيين في الخط والنقر بالإضافة إلى مجموعة متمرسة من النحاتين الشباب .

سامان كمال، سعد الزبيدي، وجدان ماهر واكبوا مرحلة تطوير التصاميم التفصيلية والإشراف على التنفيذ في الموقع مع مهندسي الشركة المقاولة كل حسب وقته. سامان كمال كان شبه متفرغ لتلك المهام متواجد في الموقع وحاضراً في الاجتماعات الأسبوعية والشهرية مع المقاول والاستشاريين العالميين ومندوبي صاحب العمل. سعد و وجدان كانا يحضران إلى الموقع بوقت جزئي لارتباطهما بالعمل في دوائر الدولة (سعد الزبيدي مدير عام في وزارة الاسكان والتعمير ووجدان ماهر مدير عام في دائرة قصور الضيافة).

بموجب العقد المبرم بين أمانة بغداد والشركة المقاولة، تولت الشركة إعداد وتطوير التفاصيل المعمارية والهندسية بالتعاون مع الفريق المعماري والفنان وأن يتم اعتمادهم لتلك المخططات أول بأول وقبل المباشرة بتنفيذها كما يتولى الاستشاري (اوف آروب العالمية) تدقيق وتنسيق مخططات وتفاصيل الأعمال الهندسية واعتمادها.

شارك سامان كمال في اعتماد التصاميم التفصيلية وحضور اختبار (نفق الرياح) لنصفي القبة في مختبرات شركة كاجيما كوربوريشن خلال اجتماعات طوكيو في تموز 1981 بحضور مهندسي الشركة المقاولة اليابانية والاستشاري (اوف آروب العالمية) وعدد من مهندسي أمانة بغداد، كما شارك في اعتماد مواد الإنهاء الداخلية والخارجية وتفاصيل التصاميم الداخلية وتصنيع ألواح تغليف نصفي القبة خلال اجتماعات طوكيو 1982.

خلال المرحلة الثانية لنصب الشهيد (1989- 1992) أنجز الفريق المعماري والنحات التصاميم الأولية والتفصيلية لجدار الشهداء ضمن منطقة الخندق بما في ذلك المساحات الجديدة المضافة له كما أشرفوا على التنفيذ في الموقع.

هل هنالك شخصيات مهنية مختصة ساهمت بالتصميم او التنفيذ لم اذكر اسمائهم في الجزئين الأول او الثاني من سلسة مراجعة نصب الشهيد؟

في مجال التصميم لم يشترك غير اللذين تم ذكرهم أعلاه ولكن هناك مهندسين وإداريين كانوا ضمن فريق صاحب العمل (أمانة بغداد) كان تعاملهم مع الأمور التعاقدية والإجرائية والمالية مع الشركة المقاولة والاستشاريين الآخرين واعطاء موافقات صاحب العمل كلما تطلب ذلك. تلك المهام هي جزء متمم للجهد الفني والهندسي لفريق التصميم ومساند له. هناك من أشار إلى دور كبير له في تصاميم المشروع ضمن كتاب سيرة ذاتية صدر في الآونة الأخيرة إلا أن ذلك مجرد ادعاء. خلال المراحل الاخيرة لتنفيذ مشروع نصب الشهيد حدثت تجاوزات غير مهنية وخطيرة من قبل أحد الموظفين الكبار في أمانة بغداد وصدرت بحقه عقوبات قاسية جداً ثم شمله عفو رئاسي صدر بعد حين.

متى وضع حجر الأساس؟

في بداية سنة 1981 استكملت إجراءات تخصيص الموقع الجديد لنصب الشهيد (موقع البحيرة) وفي نيسان من نفس السنة تم وضع حجر الأساس للمشروع وسلم الموقع إلى الشركة المقاولة اليابانية وباشرت بالتنفيذ.

هل حدثت محاولات لمحاربة و افشال النصب قبل بدء التنفيذ؟

ليس بمعنى المحاربة والإفشال بل كانت هناك آراء ووجهات نظر تطرح في الإعلام من حين لآخر بعضها (مبطن) تعترض بشكل عام على مثل هذه المشاريع وتقلل من أهمية تنفيذها وجدواها ولم يكن لتلك الآراء أي تأثير. أُدرج نصب الشهيد ضمن مشاريع تطوير وتجميل المدينة لمناسبة انعقاد مؤتمر قمة دول عدم الانحياز في بغداد سنة 1983.

ما مدى تدخل القيادة السياسية في تصميم نصب الشهيد؟

لم يكن هناك تدخل مباشر في عملنا من قبل أي جهة سياسية أو حكومية بل وردتنا مجموعة من الملاحظات الفنية من جهات معمارية وهندسية ذات خبرة كُلفت بدراسة ما كنا نقدمه من تصاميم ووثائق ونماذج خلال اعتماد مراحل التصاميم المختلفة وكانت تلك الملاحظات إيجابية وفي نطاق محدود جداً.

هل كانت حدثت محاولات من جهات متنفذة لإحداث تغييرات في موقع النصب و استطعتم اقناعهم بالعدول عنها؟

عموماً لم نلمس مثل هذه المحاولات بل العكس الكل كان متمسكاً بمبادئ التصميم التي اعتمدت في البداية الا ان هناك حادثة جديرة بالذكر كان يمكن ان تؤثر على النصب لولا تداركنا لها.

في آذار 1985 حدثت واحدة من المعارك الرئيسية الشرسة في الحرب العراقية الايرانية في مناطق هور الحويزة في العمارة سقط فيها الكثير من الضحايا من الطرفين من بينهم قادة عسكريون برتب كبيرة. نتيجة لتلك الحالة تبلغت امانة بغداد بقرار من رئاسة الجمهورية لتخصيص مساحات في موقع نصب الشهيد لتكون مدافن لنخبة من القادة والمتميزين الذين استشهدوا في تلك المعركة. طلبني امين بغداد في حينه ليبلغني القرار ويطلب مني تقديم مقترحات تصميمية وبدائل لمواقع تلك المدافن لعرضها على رئاسة الجمهورية.

تبلغت شخصيا بذلك القرار من قبل امين بغداد في حينه الذي طلب منا تقديم عدة مقترحات لعرضها على الرئاسة. كان القرار مفاجئا كون القبور و المدافن في الموقع تتعارض مع مبادئ وفلسفة النصب. مناقشة ذلك القرار لم يكن امرا واردا في ظل ظروف المعركة الشرسة. عملنا وبشكل سريع على دراسة الموضوع واعداد المقترحات المناسبة. تم اعداد ثلاث مقترحات اثنان منها تتضمن مقابر في زوايا من الموقع حسب طلب رئاسة الجمهورية في حين تضمن المقترح الثالث تشكيل مجموعة تمثل كافة صنوف الجيش لتقوم بجمع التراب المخضب بالدماء واشلاء الشهداء من ارض المعركة وتشيع ذلك رسميا بنعش رمزي الى نصب الشهيد بمشاركة قادة وضباط من كل صنوف الجيش العراقي. حصلت موافقة الرئاسة على المقترح الثالث واستطعنا المحافظة على مبادئ نصب الشهيد كونه مكان للحياة وللفخر والزهو وانقاذه من ان يتحول الى مقبرة.

هل تتفق بأن اهمية دور المقاولين ميتسوبيشي وكاجيما اليابانيتين في اظهار النصب بوضعه الحااي توازي اهمية دورالمصممين ؟

إن نجاح أي منشأ معماري يحتاج إلى تصميم وإشراف جيدين بالإضافة إلى مقاول منفذ جيد وبالتأكيد كان دور شركتي ميتسوبيشي كوربوريشن وكاجيما كوربوريشن اليابانيتان هام جداً وفعال حيث سخرت الشركتان العملاقتان كل الخبرات والتقنيات التي كانت متاحة لديها في حينه لتنفيذ المشروع بأفضل المستويات بالإضافة إلى الاستعانة بالخط الأول من المنتجين والمصنعين ومراكز البحث في اليابان لتجهيز ما يحتاجه المشروع من مواد بناء وأجهزة ومعدات. تجدر الإشارة هنا إلى أن الشركات المقاولة السبعة التي تمت دعوتها في حينه للتقديم على عطاء تنفيذ نصب الشهيد كانت بنفس المستوى العالي والخبرة العالية وكانت عاملة على تنفيذ مشاريع كبرى في بغداد منها على سبيل المثال الشركات المنفذة لفندق قصر الرشيد وقصر المؤتمرات الذي يشغله حالياً مجلس النواب.

هنالك حادثة لطيفه مع المقاول الياباني بخصوص فواصل التمدد، تتذكرها؟

بسبب الحجم الكبير للمشروع تضمّن التصميم الإنشائي فواصل للتمدد تشطر المبنى إلى عدة أجزاء وهذه الفواصل تعالج بتراكيب معدنية ومطاطية خاصة وبمواصفات عالية تسمح بتمدد وتقلص أجزاء المبنى صيفاً وشتاءً وتمنع تسرب مياه الأمطار من خلال تلك الفواصل إلى داخل المبنى. بموجب أفضل المواصفات العالمية لتلك الفواصل ينبغي إجراء الصيانة الدورية لها واستبدال الأجزاء التالفة منها من حين لآخر(10-15 سنه). إن عدم إجراء الصيانة في مواعيدها يعني احتمال تلف مفصل التمدد وتسرب مياه الأمطار إلى داخل المبنى.

من خلال معرفتنا بضعف إجراءات الصيانة في بلدنا طلبنا من الشركة المقاولة توفير حماية احتياطية لتلك الفواصل تمنع تسرب ماء المطر في حال تأخر أعمال صيانة تلك الفواصل. كان طلبنا غريبا على الشركة اليابانية إلا أنها لبّت الطلب. تم تركيب سواقي معدنية تحت مسارات فواصل التمدد لتستوعب الماء المتسرب من الفواصل ( في حال عدم صيانتها) ونقله إلى شبكة تصريف مياه الأمطار. تأثرت مجموعة الفواصل في المشروع فعلاً بسبب عدم صيانتها من جهة، وتخريبها عند دخول الجيش الأمريكي لموقع نصب الشهيد سنة 2003 وحركة آلياته العسكرية الثقيلة فوق سطوح المنصة وحول النصب من جهة أخرى، حيث جعلوا من منشآت وقاعات نصب الشهيد مقرا لقواتهم ومرآباً لآلياتهم لأكثر من سنتين.

خلال إحدى زياراتي للنصب سنة 2015 شاهدت موقعياً الأضرار التي تسببت بها آليات الجيش الامريكي عند مواقع فواصل التمدد وفي أماكن أخرى في النصب، وقد علمت من أحد المهندسين العراقيين الشباب في الموقع أن شبكة السواقي المعدنية الاحتياطية تحت مسارات الفواصل حالت دون تسرب مياه الأمطار إلى الداخل.

بعد انتهاء مرحلة التصميم، ما هو دوركم في التنفيذ؟

كجزء من المهام التعاقدية للمقاول (شركتي متسوبيشي وكاجيما اليابانيتان) إعداد مخططات التصاميم التفصيلية والتنفيذية للأعمال المعمارية والهندسية بموجب التصاميم والدراسات الاولية لتعرض علينا (الفريق المعماري للمشروع) لمراجعتها.

أعد المقاول تلك المخططات التنفيذية على شكل رزم كانت تقدم إلينا كل شهر مع بداية العمل في المشروع لمراجعتها وتقديم ملاحظاتنا حولها وتعديل ما يتطلب منها خلال عدة أيام، ثم نجتمع بعدها مع فريق مهندسي المقاول في الموقع لمناقشة تلك الملاحظات والتعديلات وعلى مدى عدة ايام. النقاشات في الاجتماعات كانت معمارية /هندسية و كان اسماعيل يحضر الاجتماعات عندما يتعلق النقاش بالاعمال التشكيلية في المشروع وارتباطها بما حولها.

بعد انتهاء الاجتماعات كان علي تقديم تقرير مفصل الى صاحب العمل يتضمن ما تمت مناقشته خلال تلك الاجتماعات وملاحظاتنا والتعديلات التي قمنا بها وما تم اعتماده من مخططات ومواد وبنود وسواها. تلك كانت اجتماعات شهرية وسياقات تم من خلالها اعتماد المئات من المخططات التفصيلية والتنفيذية ، كما قام مهندسو مؤسسة (اوف آروب الاستشارية العالمية) باعتماد تفاصيل الاعمال الهندسية المختلفة.

كان ضمن مهامنا للأشراف (كفريق عمل) زيارة الموقع والتحقق من حسن تنفيذ التفاصيل والمخططات المعتمدة، وتقديم تقرير الاشراف الشهري المفصل مع ملاحظاتنا وتوصياتنا.

لنتحدث الان عن مرحلة ما بعد البناء، كيف كان شعورك بعد انتهاء البناء و افتتاح النصب؟

نصب الشهيد هو حلم كبير بدأ معنا صغيراً في حينه…كان تحقيقه وتنفيذه يبدو ضرباً من الخيال لكنه تحقق بإرادة كل الذين عملوا وشاركوا في جميع مراحل التصميم والتنفيذ من معماريين وفنانين ومهندسين وإداريين ومسئولين وجهات حكومية مختلفة إضافة إلى الخبرات العالمية التي ساهمت في تحقيق هذا الإنجاز الكبير. من المفرح أن جميع الافكار التي طرحت في المراحل الأولى من المشروع تحققت وتطورت ونفذت كما أُريد لها بل أفضل.

في تقرير التصميم الأول ( كانون الأول 1979) اقترحتم مراسيم خاصة تستند على ادخال مجموعة من الفرسان من مسارات محددة تحمل رايات و ابواق مع إيقاع صوتي يتناسب و الحدث. لماذا لا تقام المراسيم كما كان مقترح لها بالفرسان؟ و هل أقيمت ابدا؟

ضمن الأفكار التصميمية الأولية ولإعادة إحياء بعض الطقوس التراثية والتاريخية تبلور لدينا مقترح إدخال كوكبة من الفرسان في مراسيم الاحتفالات السنوية لتكريم الشهيد وتم اعتماد المقترح من قبل الجهات المشرفة على المشروع لما للفروسية من ارتباط وثيق مع الشهادة عبر التاريخ. تم إدخال مستلزمات إقامة تلك المراسيم وأضيفت أماكن خاصة للخيول والخيالة في زاوية بعيدة من الموقع وجرت لهم عدة تدريبات في الموقع وحول النصب تميزت بالجمالية والإتقان قامت بها تشكيلات منتقاة من الخيالة والفرسان في الجيش العراقي وعلى أنغام سيمفونية الشهيد إلا أن ذلك توقف تماماً بعد حرب 1991.

بعد افتتاح نصب الشهيد عام 1983 كلفت وزارة الثقافة والاعلام العراقية الموسيقار اللبناني وليد غلميه لتأليف سيمفونية خاصة بالشهيد وبعد زيارته للنصب عاد الى بيروت وبدأ بتأليفها حيث انجزها وعزفت من قبل اوركسترا المعهد الوطني العالي للموسيقى ببيروت بقيادته.

تميز نصب الشهيد عن سواه من النصب والصروح بتأليف سيمفونية خاصة به تعزف خلال مراسيم زيارته وداخل قاعاته ومتاحفه وفي يوم الشهيد العراقي في الاول من كانون الاول من كل عام. كما زينت صورة نصب الشهيد العملة العراقية في ثمانينات القرن الماضي إضافة الى الطوابع البريدية.

السيمفونية

لماذا لم يرشح النصب لجائزة الاغا خان لدورة 1984 – 1986؟

خلال تلك الفترة كانت الحرب بين العراق وإيران في أوجها وأن النصب كان قد ارتبط اسمه الرسمي بتلك الحرب (نصب شهداء قادسية صدام) في حين إن مؤسسة الآغا خان هي مؤسسة ثقافية ووكالة تنمية دولية اسلامية وهي لا تشجع أي شكل من اشكال الخلافات بين الدول الاسلامية.

كيف تغير اسم النصب من نصب الشهيد الى نصب شهداء قادسية صدام؟

قام أحد وكلاء أمين بغداد في حينه باقتراح تغيير الاسم خلال الندوة الثقافية والحضارية لنصب الشهيد في كانون ثاني 1981 بحضور رئيس الجمهورية وعدد من الوزراء والقادة العسكريين وتمت الموافقة على ذلك المقترح في الحال وتمت مكافأة الوكيل فيما بعد ليصبح أميناً لبغداد.

وكيل أمين العاصمة عبد الحسين الشيخ علي و هشام المدفعي في ندوة نصب الشهيد لحظة اقتراح تغيير اسم نصب الشهيد الى نصب شهداء قادسية صدام

كيف تقيس نجاح تصميم نصب الشهيد؟

هناك عدة معايير وعدة أوجه لقياس نجاح أي تصميم. ربما أنا لست الشخص المناسب لتقييم ذلك النجاح لكني استطيع طرح بعض تلك المعايير لمن يريد القياس عليها، منها :
­ مدى تحقيق المشروع للهدف الذي أنشئ من أجله
­ – تحقيق التكامل بين المشروع و موقعه والبيئة المحيطة
­ – أن يعكس المشروع العمق الثقافي والحضاري للبلد والمجتمع
­ – أن يشكل إضافة نوعية للمنطقة والمدينة من النواحي الفنية والمعمارية والثقافية والاجتماعية

اما المعايير المرتبطة بالجوانب التقنية والهندسية فإن أدوات القياس فيها ترتبط بالتالي:
­ تحقيق أعلى المعايير والمواصفات الفنية في التصميم والتنفيذ
­ – وضع الحلول المعمارية والهندسية المناسبة خلال جميع مراحل التصميم والتنفيذ
­ -التنسيق والتكامل التام بين الأفكار والأعمال التشكيلية والمعمارية وبقية التخصصات الهندسية والتقنية
­ – إنجازه ضمن المدة المحددة للتنفيذ (نصب الشهيد نفذ خلال 27 شهراً برغم ظروف الحرب التي كانت سائدة في حينه) و ضمن الكلفة التقديرية المحددة له (كانت 40 مليون دينار عراقي).

برأيك ما هو المنجز التصميمي المميز لنصب الشهيد؟

لم يقتصر المنجز التصمييمي في نصب الشهيد على تحديث الشكل فقط بل شمل المحتوى البنائي لعناصر المنشأ واستخدام تقنيات هندسية جديدة في تنفيذ عناصر النصب والمتحف، بالاضافة الى خلق فضاء حضري مميز ضمن المدينة ساهم في ترسيخ الافكار الفلسفية لموضوع الشهادة وارتباطها بالارض والوطن.

يوجد تقارب تصميمي من حيث العناصر الرئيسية بين نصب الشهيد والجندي المجهول ، قبة معلقة وقبة مشطورة كليهما على منصة دائرية، تحتها متحف، و راية ملتوية. النصبين صممهما نحات ومعمار ما سبب هذا التقارب؟ صدفة ام له علاقة بتصميم النصب و تجريد العناصر؟

للأسف لم أكن قريبا من الفنان خالد الرحال في تلك الفترة كما لم تتح لي الفرصة للاطلاع على تفاصيل تنفيذ مشروعه في حينه لانشغالي، ولكن كما نعلم أن هناك مشتركات كثيرة بين الموضوعين إلا أن الفلسفة التي بني عليها نصب الشهيد تختلف كثيراً، ابتداءً من تحليل موضوع الشهادة وعلاقته بالحياة والموت حيث حددت العناصر المعمارية والتشكيلية الرئيسية فيه علاقة كل منهم بالحدث، بالإضافة إلى استحداث عناصر وفضاءات تكميلية تتوافق معها.

ما هو مكانك المفضل او زاويتك المفضلة في النصب

المكان كله مفضل لدي بكل زواياه الا ان حالة الخشوع والرهبة عند الوقوف امام نصفي القبة تبقى هي اللحظة الاهم عند زيارتي للمكان.

بعد إنجازه، ما الذي يمر بذهنك عند كنت مرورك بالنصب ؟

في لحظات تأمل…. يمر أمامي شريط الأحداث منذ اليوم الأول وحتى الإنجاز بكل حلوه ومره، الفوز بالمسابقة، تكليفنا بالمباشرة بالعمل والسير بمراحل المشروع، اختيار المقاول العالمي للتنفيذ، إنجاز الأعمال في الموقع ثم الافتتاح، تفاصيل يومية كثيرة وقصة تحدي ونجاح من الصعب أن تتكرر، ذكريات… البعض منها لا يزال عالقاً في الذاكرة وعلى الورق والكثير من تلك الذكريات ذهبت مع الزمن.

ما رأيك بتصميم المباني التجارية التي ظهرت على ارض النصب وحوله في العشر سنوات الاخيرة ، وهل لها اثر سلبي على النصب ؟

ينتابني حزن شديد حين أمر أمام موقع النصب في الوقت الحاضر حيث تحجبه عني أبنية تجارية رديئة شيدت فقط لتحجب مشهد النصب من الطرق الرئيسية المحيطة به. هذه الأبنية متجاوزة على الارض والفضاء ولابد أن تزال في يوم ما.

النصب من شارع فلسطين – تصوير ديمة ال يحيى

“استثمار أراضي النصب لصيانة النصب” ما رأيك بهذا المفهوم و الممارسة التي تبنتها مؤسسة الشهداء؟

للأسف مفهوم الاستثمار في البلد لا يسير بالاتجاه الصحيح في معظم تطبيقاته، إذ كيف تسمح الجهات الحكومية ان تستباح مساحات مهمة مثل حدائق وأراضي نصب الشهيد لتشيد عليها مشاريع تجارية رديئة همها الوحيد كسب المال على حساب المدينة وجماليتها ومشاريعها العملاقة. نصب الشهيد ليس مشروعاً للاستثمار بل موقعاً ثقافياً، حضارياً ومساحة خضراء هي جزء مهم من الفضاء المحيط بالنصب يتناسب مع حجمه ويتكامل معه. ذلك الفضاء والمساحات المفتوحة هي ملك للنصب والمدينة ولكل أبناءها.

في كل المدن الكبرى في العالم هناك حدائق ومتنزهات في قلب تلك المدن (هايد بارك في لندن …وسنترال بارك في نيويورك….وسواهما) وهي مساحات خضراء وفضاءات مفتوحة لن يجرأ أحد على التصرف بمتر واحد من أرضها رغم الارتفاع الكبير جداً في ثمنها. الاستثمار في انشاء الحدائق والفضاءات المفتوحة في المدينة لا يقل أهمية عن الاستثمارات الأخرى إن لم يتفوق عليها.

كان هناك رفض شديد لطرح نصب الشهيد للاستثمار من قبل مجموعة واسعة من المثقفين العراقيين في الداخل والخارج وتم ارسال عدة رسائل مباشرة الى عادل عبد المهدي رئيس الوزراء في حينه موقعة من اكثر من150 شخصية عراقية تطالبه فيها بالغاء ذلك الاستثمار. كما تم ارسال رسالة مماثلة الى مكتب السيد رئيس الجمهورية برهم صالح من خلال المهندسة ميسون الدملوجي. ومع استمرار ادارة النصب بإجراءات منح الاستثمار، عقدنا اجتماع في السفارة العراقية في عمان مع السفيرة صفية السهيل حضره عدد من المهتمين بالمشروع وتم ارسال رسالة ثانية الى عادل عبد المهدي بنفس المضمون ومن خلال القنوات الرسمية للسفارة وبمتابعة من السفيرة. وردنا بعد حين كتاب من السفيرة صفيه يشير الى صدور كتاب من الامانة العامة لرئاسة الوزراء يوعز بايقاف إجراءات الاستثمار في موقع نصب الشهيد. اعقب ذلك احالة رئيسة مؤسسة الشهداء الى القضاء بتهمة استلام رشاوى من المستثمر وحكم عليها بموجب ذلك.

قرار الحكم على رئيس مؤسسة الشهداء ناجحة عبد الامير الشمري

هل تعرض النصب للنهب او الضرر بعد يوم 9 نيسان 2003؟

نعم تعرضت أجزاء مهمة منه إلى السرقة والتلف وخصوصاً بعض أعمال الرخام في الحدائق والموقع، وبعد أن دخلته القوات الأمريكية صعدت بآلياتها الثقيلة فوق المنصة وحول النصب فتكسرت أرضيات الرخام والتيرازو وتلفت المماشي والمزروعات وقاموا ببناء حوض سباحة كبير ضمن قاعدة الشلال داخل المتحف لأغراض ترفيهية ورياضية لجنودهم ومنتسبيهم وبعد أكثر من خمس سنوات تركوا المكان دون أن يعيدوه إلى ما كان عليه.

كيف كان حال النصب بعد خروج الأمريكان؟

بعد خروج وحدات الجيش الامريكي من موقع النصب أوعز رئيس الوزراء في حينه بنقل عائديه النصب من امانة بغداد الى مؤسسة الشهداء التي استغلت النصب لأغراض لا ترتبط بأهدافه الاساسية في محاولة منها لحل المشاكل المالية للمؤسسة على حساب النصب فلجأت الى منح رخص (استثمار) غريبة تبين فيما بعد وجود مصالح خاصة وراء تلك الرخص.

تسبب تصرف المسئولين عن مؤسسة الشهداء في احداث ضرر كبير في موقع وحدائق ومنشآت النصب وفي تشييد ابنية رديئة امام واجهته الرئيسية من جهة شارع فلسطين الغاية منها الحصول على منافع مادية بخسة و حجب منظر النصب عن الخارج.

لم تكن لمؤسسة لشهداء اي تخصيصات مهمة لإصلاح النصب كما انها لم تطالب الجيش الامريكي بتكاليف اصلاح الاضرار الكبيرة التي تسببوا بها او حتى باجور بدل استعمالهم للمكان خلال سنوات اشغالهم له قسراً.

متى كانت اخر زيارة لك لنصب الشهيد؟ و ما هو شعورك حينها؟

آخر زيارة لي لنصب الشهيد كانت في نهاية سنة 2018، كانت زيارة محزنه إذ شاهدت على الواقع كيف يستبيحون أرض النصب ويغتصبون حدائقه وفضاءه. بعثت رسائل مباشرة لأعلى سلطة في البلاد وجاءت استجابة سريعة بالأمر بإيقاف جميع الأعمال الاستثمارية في موقع نصب الشهيد ولكن ما كان يحصل على الأرض غير ذلك.

المعرض الدائم في متحف النصب يعرض أدوات و أساليب التعذيب في زمن رئيس الجمهورية الأسبق صدام حسين، و قبل 2003 كانت المعارض تستعرض طرق تعذيب الجيش الإيراني للأسرى العراقيين، الا يتعارض الاثنان مع فكرة النصب التي تركز على موضوع الحياة و لا تجعل الموت، القسوة ، و التعذيب موضوعاً لها؟

لم يؤسس نصب ومتحف الشهيد لترويج مثل هذه المعروضات والأفكار. يحدث ذلك نتيجة لاجتهادات شخصية من القائمين على إدارة الموقع في جميع الأوقات. من الضروري اختيار إدارة و كادر واعي ومثقف يتولى تنظيم المعروضات والوثائق والصور المناسبة ذات العلاقة بموضوع الشهادة ويستقبل الجمهور والوفود ويشرح لهم ويرافقهم في جولاتهم داخل النصب لاستثمار المكان لبث الروح الوطنية من خلاله بين الصغار والكبار وتعليمهم حب الوطن والذود عنه.

من هو المسؤول عن نصب الشهيد و من هي الجهة التي تملك صلاحية الموافقة على استثمار أراضي النصب بحيث كانت النتيجة بهذا الابتذال؟

بعد إنجاز نصب الشهيد بقي ارتباطه بأمانة بغداد إلى ما بعد 2003 حيث سعت جهات سياسية إلى ربطه بمؤسسة الشهداء وتم ذلك. ولكن للأسف حاول القائمون على تلك المؤسسة استغلال الحدائق والفضاءات الخارجية للنصب واحالتها إلى الاستثمار وأنشأت عدة أبنية تجارية على أراضيه حجبت مشهد النصب من الطرق الرئيسية المحيطة به. ان مؤسسة الشهداء وامانة بغداد هي الجهات الرئيسية المعنية بمنح الموافقات لاستثمار اراضي النصب.

اليمين: صورة للموقع اذار 2020 توضح المنشأت المبنية على بحيرة النصب و الحاجبة لمنظر النصب. اليسار: صورة للموقع قبل التشويه

ما هي الخطوات الواجب اتخذاها الآن للمحافظة على النصب؟

أولى الخطوات المهمة هي فك ارتباط النصب بمؤسسة الشهداء التي تسببت بكل تلك الأضرار ومن ثم اختيار إدارة متخصصة بالشؤون الثقافية والتأريخية لا تطمع بأراضي النصب أو تفكر ببيعه وتأجيره وأن تكون معززة بكوادر فنية وهندسية وزراعية لإدارته وصيانته وإعادة الحياة لحدائقه ومزروعاته وفضاءاته، وإعادة تشغيل جميع أنظمة التدفئة والتبريد المركزية وأنظمة السلامة والسيطرة والأمان وبموجب المخططات والتصاميم التفصيلية الأصلية، مع تحديث مواصفات الأجهزة والمعدات حسب أفضل التقنيات الحديثة السائدة.

عام 2019 أصدرت رئاسة الوزراء قرارا يقتضي بإيقاف المشاريع الاستثمارية و التجارية في موقع الشهيد، لكن الاعمال مستمرة! لماذا لا يتم ازالتها؟

كتاب رئاسة الوزراء صريح وواضح بخصوص ايقاف المشاريع الاستثمارية في موقع نصب الشهيد وتبقى المكاتب التابعة لرئاسة الوزراء هي الجهة التي تتحقق من تنفيذ قراراتها على ارض الواقع.

وثيقة تحمل توقيع سفير العراق السابق لدى عمان صفية السهيل

من هي الجهة المسئولة عن إزالة هذه المنشأت بموجب قرار رئاسة الوزراء؟

الجهة التي يرتبط بها نصب الشهيد حاليا هي مؤسسة الشهداء وترتبط بشكل مباشر برئاسة الوزراء اضافة الى امانة بغداد المسئولة عن جميع رخص البناء وضبط استعمالات الارض في المدينة وازالة كل التجاوزات والمخالفات.

ما هو تأثير النصب على مسيرتك المهنية؟

نصب الشهيد عمل معماري وهندسي ونحتي كبير وفريد من نوعه استغرق تصميمه وبناءه بمرحلتيه الأولى والثانية ما يقارب 14 عاما (1978- 1992) وكنت شخصيا قريباً من كل تفاصيله ابتداءً من مرحلة المسابقة وبقية مراحل التصميم واعتماد التصاميم التفصيلية والتنفيذية والإشراف الموقعي على التنفيذ. حاولت الاستفادة قدر المستطاع من فرصة تواجدي بين خبرات عالمية فذة في مجالات الهندسة والمقاولات والتنفيذ (شركتي ميتسوبيشي كوربوريشن وكاجيما كوربوريشن اليابانيتان) ومؤسسة (أوف آروب الاستشارية العالمية) بالإضافة إلى تفاعلي مع تلك الخبرات والمساهمة في اتخاذ القرارات التصميمية المناسبة للمشروع في مراحله المختلفة . تلك خبرة اعتز بها منحتني دافعاً مهماً في جميع أعمالي وفي المشاريع التي عملت عليها فيما بعد في العراق وخارج العراق وأهلتني للعمل على مشاريع كبرى متنوعة.

نهاية الجزء الثالث و المراجعة

*سامان أسعد كمال – سيرة ذاتية

مهندس معماري عراقي ولد في بغداد عام 1948 ودرس فيها . التحق بقسم الهندسة المعمارية في كلية الهندسة بجامعة بغداد. درس على يد كبار اساتذة العمارة من العراقيين منهم الدكتور محمد مكية و هشام منير وعبد الله احسان كامل. حصل على البكالوريوس في الهندسة المعمارية في عام 1972 وعمل مع المعمار رفعة الجادرجي (مكتب الاستشاري العراقي). فاز بالمرتبة الاولى في مسابقة تصميم نصب الشهيد ببغداد مع النحات العراقي اسماعيل الترك وتم تكليفهما بالتصاميم والاشراف على التنفيذ. اسس مكتبه الخاص ببغداد (التكوين المعماري) عام 1980. انجز المكتب عدد من المشاريع الرئيسية لأمانة بغداد بالتعاون مع مؤسسات استشارية عالمية مثل تطوير منطقة باب الشيخ 4 و5 وتطوير شارع الخلفاء ومنتدى الكرخ الثقافي بالإضافة المدينة الرياضية في الموصل ومسابقة القصر الرئاسي ببغداد.

انتقل للعمل في الاردن عام 1995 مع شركة سيجما مهندسون مستشارون كمدير دائرة تصاميم ومدير مشروع التطوير السياحي للساحل الشرقي للبحر الميت كما تولى تصاميم عدد آخر من المشاريع الرئيسية فيها مثل مبنى شركة الاتصالات الأردنية وبرجي مركز التجارة العالمي في عمان (الحياة و زاره‏) ومطار الملك الحسين الدولي في العقبة والمدن الصناعية المؤهلة QIZ ‏في عمان والعقبة و جنين، كما تولى رئاسة فريق مشاريع الحفاظ والتطوير السياحي لمدينة مأدبا التاريخية و البتراء في الاردن بدعم من البنك الدولي.

أسس مكتبه الخاص في الاردن عام 2005 وله اعمال في الأردن و العراق وافريقيا منها: ‏ تخطيط وتصاميم المنطقة الصناعية المؤهلة QIZ في ميناء دار السلام في تنزانيا، مبنى برج زهران في الدوار الثالث بعمان، مستشفى 100 سرير للحروق والجراحة التجميلية في السليمانية، مول و مبنى تجاري من 18 طابقاً في السليمانية، الأقسام الجراحية لخمسة مستشفيات رئيسية ثلاثة في بغداد وفي الناصرية وبعقوبة، أبنية الإدارة والسيطرة والتوزيع في محطة كهرباء بسماية في بغداد و مبنى وزارة التعليم العالي في أربيل – مسابقة.

عمل ‏مستشاراً هندسيا لعدة شركات استثمارية وعقارية وصناعية في العراق والأردن. عضو في لجان تحكيم وتقييم مشاريع التخرج لطلبة العمارة في الجامعة التكنولوجية في بغداد وجامعة البتراء والجامعة الألمانية في عمان.