Image Courtesy of Ziyad Matti

مراجعة: نصب الشهيد – الجزء الاول

تأريخ اعلان مسابقة النصب
1978
كلفة المشروع
40 مليون دينار عراقي (ما يعادل 500 مليون دولار امريكي اليوم)
مدة التنفيذ
نيسان 1981 - تموز 1983
رب العمل
امانة العاصمة
المصممون / استشاريو الاعمال المعمارية و النحتية
النحات
اسماعيل فتاح الترك
المهندس المعماري
سامان اسعد كمال
المهندسون المعمارييون
سعد الزبيدي، وجدان ماهر، اسماعيل كنة، ندى زبوني
استشاريو الهندسة الانشائية و الخدمات
اوف اروب و مشاركوه العالمية - المملكة المتحدة
الاستشاري المشرف على التنفيذ الموقعي
أم + اًر استشاريون - بلجيكا بالاضافة الى مصممي المشروع
الشركة المقاولة المنفذة للمشروع
متسوبيشي كوربوريشن و كاجيما كوربوريشن - اليابان

تقدم مجلة “المدينة المدورة” مرجعا تاريخيا لنصب الشهيد في بغداد و ما يمثله اليوم

حينما اُعلنت مسابقة تصميم نصب الشهيد في بغداد ضمن خطط التنمية لعام 1978 لإقامة نصب تذكاري للشهداء العراقيين، كان العراق قد مر بعدة حروب خارجية واحداث داخلية دامية تركت بصماتها القاسية على الناس وسقط منهم الكثير شهداء، لذا جاءت فكرة نصب الشهيد لتخليد كل هؤلاء الشهداء في مكان واحد.

لكن ما يمثله نصب الشهيد اليوم بعد اربعة عقود من المحن و التضحيات هو أعمق بكثير مما كان يعنيه و يمثله. ولهذا السبب لا يجوز فصل المعنى الاجتماعي والثقافي والنفسي عن أي نقاش حول هذا النصب التذكاري الوطني، فبعد 42 عام من ذلك التأريخ أصبح في كل عائلة شهيد أو أكثر. لذلك مراجعة النصب في سياق واحد هو السياق السياسي مع تجاهل السياقات و المعاني الأخرى الأكثر اهمية هي مراجعة غير مكتملة.

رغم أن نصب الشهيد بات أحد المعالم المعاصرة المهمة في ارض ما بين النهرين الزاخرة بالمعالم منذ فجر الحضارة، فأنه نادرًا ما يتم تقييم و تقدير المساهمة التصميمية للنصب و تسليط الضوء عليها كونها تمثل احدى انجح محاولات العراق في تكوين هوية محلية حديثة فنياً و معمارياً. كما إن الشعور الذي يثيره نصب الشهيد عندما تكون في الداخل هو شعور مؤثر و سريالي ولكن هذا التفصيل غالبا ما يغفل ذكره ايضا.

تغطي هذه السلسلة حول نصب الشهيد والمكونة من ثلاث مقالات السياق التاريخي للنصب و بشكل دقيق، كما تستعرض المقاربة التصميمية و تطورها واخيراً الوضع الحالي للنصب. تستند المقالات و جميع المعلومات الواردة في هذه السلسلة الى عدد من المقابلات مع معمار النصب سامان كمال، أضافة الى الرجوع الى عدد من المصادر المنشورة بما في ذلك مجلات تصميم يابانية وثقت عملية التصميم و التنفيذ في حينه، وثلاثة تقارير حكومية رسمية نشرت في الأعوام 1979 و 1981 و 1983 من قبل فريق المصممين و شركة المقاولات اليابانية و أمانة بغداد و مقابلات منشورة مع نحات النصب اسماعيل الترك اجراها معه التشكيليان رافع الناصري و ضياء العزاوي وسيرة النحات اسماعيل الترك من كتاب الفن الحديث في العراق: التواصل و التمايز للكاتبة مي مظفر، وكتاب :النصب” للمعمار و الاكاديمي العراقي كنعان مكية.

المسابقة

سيطرت الدولة على عائدات النفط أثر قانون 69 لسنة 1972 لتأميم النفط العراقي، تلاها عامان من العقوبات الاقتصادية الدولية على العراق والتي تم الغائها في عام 1974 بعد أزمة النفط العالمية إثر حرب أكتوبر 1973. بعد ذلك أطلقت حكومة احمد حسن البكر رئيس الجمهورية انذاك خطة تنمية واسعة النطاق نفذ بموجبها العديد من مشاريع البنى التحتية ومشاريع التجديد الحضري بما في ذلك عدد من المباني الثقافية مثل المسارح والسينمات والمكتبات المركزية والمتاحف في عدد من المدن و المحافظات. و في عام 1978، أُضيف إلى قائمتها للمشروعات الثقافية فكرة إنشاء نصب ومقبرة للشهداء إحياءاً لذكرى شهداء العراق. وعلى هذا الأساس تم تنظيم مسابقة مفتوحة لتصميم النصب.

كانت فكرة نصب للشهداء فكرة غير شائعة قدمت تحدياً فريداً للمصممين، اٍذ غالبا ما تميل الدول و الحكومات الى اقامة النصب التذكارية الوطنية او نصب للجندي المجهول لحروب و معارك معينة و الأمثلة على ذلك كثيرة مثل نصب (وايتهول) التذكاري في لندن الذي تم بناؤه بعد الحرب العالمية الأولى ليصبح النصب الرسمي لضحايا الحروب في المملكة المتحدة . هنالك ايضا نُصب تذكارية للجنود المجهولين ، مثل قبر الجندي المجهول المصنوع من الرخام الأبيض في ولاية فرجينيا الامريكية ويحتوي على رفات جنود من كل من الحرب العالمية و الحرب الكورية وحرب فيتنام، اما في العراق فكان النصب الرسمي هو نصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس الذي صممه عام 1958 المعمار العراقي رفعة الجادرجي بتكليف من عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق في حينه و الذي ازيل في عام 1982 واقيم مكانه فيما بعد تمثال لصدام حسين رئيس الجمهورية الذي هدم عام 2003 عند دخول القوات الامريكية لبغداد.

نصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس للمعمار رفعة الجادرجي 1959

شارك في مسابقة نصب الشهيد و المقبرة أكثر من 10 من الفنانين والمعماريين ، بما في ذلك التشكيلي والنحات العراقي المعروف إسماعيل فتاح الترك* والمهندس المعماري الشاب سامان كمال، في تلك الفترة كان سامان يعمل على تصميم بيت ومشغل (ستوديو) لاسماعيل وكانا يلتقيان بشكل مستمر مما عزز الصداقة القديمة بينهما منذ ان كان اسماعيل محاضراً لمادة النحت والسيراميك في قسم الهندسة المعمارية بكلية الهندسة – جامعة بغداد، حيث كان سامان طالباً فيها عام 1969. استمرت تلك العلاقة من خلال حضورهما المعارض التشكيلية لاسماعيل واقرانه من الفنانين العراقيين بالاضافة الى حضور الندوات واللقاءات الثقافية .

أطلقت المسابقة عام 1978, وتُرك للمشاركين حرية صياغة مفاهيم التصميم الأساسية لنصب للشهداء مع مقبرة. كانت المسابقة مفتوحة وتفاصيلها غير محددة و لم يعلن عن لجنة تحكيمها، مما ترك انطباعاً لدى إسماعيل الترك و سامان كمال بأن تحكيم المسابقة سيؤول الى شخص غير مختص او مؤهل لهذه المهمة. و لكن استمرار نقاشاتهم حول تحويل مبدأ الشهادة الى فلسفة تصميمية خلقت لديهم تحدي و شجعتهم على المشاركة في المسابقة.

المقترح التصميمي

في النصف الثاني من عام 1978 وبعد أشهر من أعلان المسابقة، قدم الترك وكمال مقترح لنصب ومتحف بدلاً من نصب ومقبرة. كانت الفكرة الأساسية للتصميم هي تخليد الشهيد كنموذج حي يرتبط بالحياة كونه يحيي فكرة أو قناعة تمثل قيم البطولة والحق، وتاكيدا على ان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وأن استشهادهم هو سبب استمرار الحياة على أرض الوطن.

خصص المقترح التصميمي الاولي للمتحف مساحات منه لتراث الشهداء في فترات مختلفة من تأريخ العراق الحديث . فتم تخصيص 35% من تلك المساحة لتراث شهداء الثورات والحركات والمظاهرات العراقية، مثل ثورة 1920 وصولا الى حرب 1973 أضافة الى جميع شهداء فترة العهد الجمهوري التي بدأت مع ثورة 14 تموز 1958. كما خصص %65 من مساحة المتحف لمعروضات عن شهداء العراق في المستقبل مع مرونة عالية في استخدام تلك الفضاءات والمساحات.

فلسفة التصميم

سعى المقترح المقدم لاستلهام الشكل من التراث المحلي و اعتماده مرتكزا رئيسيا، ففي العراق كما في العالم العربي و الإسلامي، للقبة سمة روحية وأثرية قوية، وغالبًا ما ترتبط بالأماكن المقدسة، وبناء على هذه الفكرة استخدمت القبة كعنصر معماري رمزي مع تحديث الشكل وعناصره التكميلية بعيدا عن الاستنساخ والتقليد الخالي من الإبداع و التجدد.

ارتكزت الفكرة التصميمية على نصفي القبة المشطورة و المحتضنة لرمز الشهيد مغلفاً بالعلم في النصف الأول و الينبوع الذي يرمز تدفق مائه الى تحت الارض كشلال الى سخاء عطاء الشهيد في نصفها الثاني.

كان تجريد القبة المستقاة من القباب العراقية وشطرها الى نصفين يهدف إلى تجسيد العلاقة الروحانية بين القبة المفتوحة (بقوة فعل الشهادة) والسماء، فلا تمسي القبة مستقر لروح الشهيد وانما رمزا لصعودها الى السماء.

شطر القبة يمثل قوة فعل الشهادة

في المراحل الأولى تم تصميم نصفي القبة التي يبلغ ارتفاعها 40 مترًا لتكون مغلفة بصفائح نحاسية مطلية بالذهب، مستوحاة من شكل ونسب ولون القباب العراقية المذهبة وتم استشارة المختصين في تذهيب وتغليف قباب المراقد و الجوامع العراقية في عملية تذهيب نصفي القبة.

ولكن بعد قيام المقاول الياباني المنفذ للمشروع (شركة ميتسوبيشي) بدراسة و محاكاة لتصميم القبة المذهبة، وجدوا أن درجة الحرارة في المنطقة المقابلة للوجهين المقعرين لنصفي القبة ستصل الى 120 درجة مئوية نهاراً خلال فصل الصيف حيث ستعكس الصفائح الذهبية أشعة الشمس وحرارتها و تركزها لتخلق مناخاً حاراً لا يطاق و اشعة حرارية حارقة. أكد الاستشاري الهندسي البريطاني (شركة اوف أرب العالمية) صحة الدراسة، وبناء عليه قرر المصممون استخدام بلاط السيراميك الأزرق المستخدم في قباب الجوامع العراقية لتغليف السطح الخارجي والداخلي لنصفي القبة.

أرتكز نصفي القبة على منصة دائرية واسعة قطرها 190 متراً، لترسيخ مبدأ إقامة الشواخص على ارضيات منفتحة تفترش مساحات مترامية الأطراف متأتية من ترامي أطراف الصحراء العربية، يمكن الاستدلال على ذلك بمراجعة مواقع الزقورات و المسلات و المراقد و الاهرامات. و بالفعل نجح التصميم بجعل العناصر العمودية والأفقية للنصب تبدو كمظهر المدن العربية القديمة.

منظر لمدينة النجف من خارج المدينة القديمة

تكمن أهمية المنجز التصميمي في تحديثه لشكل القبة التقليدي والمتطور. اذ تمثل القبة المشطورة لنصب الشهيد احدى أنجح تجارب احياء الاشكال التقليدية و تحويلها الى اشكال معاصرة، و هي من أجمل المحاولات عالمياً في تجديد شكل القبة

التصميم والبناء

في منتصف عام 1979 حصلت الموافقة رسمياً على السير بمراحل مشروع نصب الشهيد بموجب المقترح التصميمي المقدم من النحات إسماعيل فتاح الترك والمعمار سامان اسعد كمال وتكليفهم باستكمال تصاميم المشروع وتشكيل فريقهم الخاص لتطوير التصاميم المعمارية والنحتية والهندسية، تشكل الفريق من كل من المعماريين العراقيين: سعد الزبيدي و وجدان ماهر و إسماعيل كنه وندى زبوني.

في شهر كانون الأول 1979 تم تقديم دراسات تطوير التصاميم المعمارية والنحتية لنصب و متحف الشهيد أعقب ذلك تهيئة وثائق دعوة المقاولين العالميين للتنفيذ. في نفس الوقت تم تضمين المشروع في قائمة مشاريع تطوير و تجميل مدينة بغداد بمناسبه استضافتها قمة رؤساء دول حركة عدم الانحياز التي كان من المقررعقدها في بغداد والتي تم نقلها لاحقًا إلى نيودلهي عام 1983.

لم يحدد منظمو المسابقة موقعاً للنصب، لكنهم اشترطوا أن يكون الموقع في جانب الرصافة (الجانب الشرقي من بغداد) باعتبار ان نصب الجندي المجهول الجديد سيكون في جانب الكرخ (تصميم التشكيلي خالد الرحال و المعمار الايطالي مارجيلو دي اوليفيو سيقع في الجانب الغربي من المدينة). وهكذا قدم المقترح التصميمي الاولي في مرحلة المسابقة في موقع كبيرغير محدد ولم يكن يتضمن بحيرة تحيط بالنصب.

تغير التصميم عندما اصطحب صباح العزاوي رئيس قسم التخطيط الاساسي في أمانة بغداد كل من إسماعيل و سامان إلى موقع في المدينة سبق استخدامه كمقالع لمعامل الطابوق، وجد المصممان المكان مثالي كموقع لنصب الشهيد كما انه غير بعيد عن مركز المدينة. يضم الموقع حفرة كبيرة مفتوحة يصل عمقها الى 6 أمتار تحت مستوى سطح الأرض وظفت لاحتواء المتحف تحت النصب والمحافظة على مستوى المنصة الرئيسية مع مستوى الارض وتحويل المساحات المنخفضة الى بحيرة تحيط بالنصب و هذا ما تم. و في وقت لاحق تم ربط البحيرة المحيطة بالنصب بقناة الجيش المجاورة والتي تأخذ الماء بدورها من نهر دجلة.

احيل تنفيذ المشروع الى شركتي “ميتسوبيشي” و “كاجيما” اليابانيتين و بدأ العمل في الموقع في نيسان عام 1981 بعد عدة أشهر من العمل على التصاميم التفصيلية والمواصفات الفنية والدراسات. كلفت شركة “اوف اروب العالمية” البريطانية بالاستشارات الانشائية للمشروع ، كما كلفت بعقد الإشراف على التنفيذ شركة “ام + ار استشاريون” البلجيكية جنبا الى جنب مع مصممي المشروع، و بعد 27 شهراً من البناء والعمل الدؤوب و بكلفة 40 مليون دينار عراقي (ما يعادل نصف مليار دولار أمريكي اليوم) تم الانتهاء من نصب الشهيد في تموز 1983.

نصب الشهيد – تصوير زياد متي

لتوخي الدقة التأريخية، لابد من الإشارة إلى ان اعلان فكرة بناء نصب تذكاري لشهداء العراق كان بداية عام 1978 وبواقع سنتين قبل بداية الحرب العراقية الإيرانية

نهاية الجزء الاول

*اسماعيل فتاح الترك

نحات و تشكيلي عراقي ولد في البصرة عام 1934 التحق بمعهد الفنون الجميلة، تتلمذ على يد رواد الفن العراقي منهم جواد سليم (النحت) و فائق حسن (الرسم) . نال دبلوم النحت في عام 1958 و الدبلوم العالي في النحت من أكاديمية روما للفنون، والدبلوم العالي في فن الخزف من أكاديمية سان جاكومو في روما. عاد إلى بغداد في عام 1964، فعين أستاذا في أكاديمية الفنون الجميلة و درس فيها اكثر من 30 عاماً. أقام عددا من المعارض الشخصية بدءا من عام 1963 في روما وبغداد وبيروت ولندن وعمان. نال عددا من الجوائز العالمية. من اهم اعماله النحتية في بغداد تمثال الشاعر معروف الرصافي، تمثال الشاعر عبد المحسن الكاظمي، تمثال الشاعر العباسي أبو نواس، تمثال الرسام يحيى بن محمود الواسطي، جدارية الطب العربي القديم في مدينة الطب، جدارية برونزية على جدار شركة إعادة التـأميم، تمثال الفارابي في حديقة الزوراء، نصب دجله والفرات في وزارة الثقافة شارع حيفا، نصب برونزية لعمارة التأمين، ورليف برونزي لواجهة وزارة الصناعة. توفي في بغداد عام 2004 .