في الجزء الثاني من سلسلة نصب الشهيد، تستعرض مجلة المدينة المدورة الآثار الاجتماعية والثقافية و التصميمية للنصب التذكاري على مدينة بغداد.
بدأنا مراجعتنا الشاملة لنصب الشهيد بتوضيح التسلسل التاريخي للنصب منذ اعلان المسابقة عام 1978 الى الانتهاء من التنفيذ و افتتاحه في تموز عام 1983. في هذا الجزء نستكشف المعاني الاجتماعية والثقافية والإبداعية لفهم أثر نصب الشهيد على المدينة و المجتمع و المراحل التي مر بها ليكون أحد اهم المعالم المعاصرة في العراق.
لصياغة نهج تحليلي لا بد من تعريف عام للنُصب التذكارية، و هي هياكل او ابنية تشيد لإحياء ذكرى حدث أو فرد أو مجموعة. تختلف النصب من حيث الحجم و التأثير، فقد تكون تمثال او منحوتة بمقياس انساني ينحتها حرفي واحد او تكون أطول أو أكبر مبنى في مدينة يشارك في انجازه مئات المهنيين و الحرفيين ليصبح رمزا لنجاح اقتصادي أو هيمنة سياسية. ويمكن أن تحدث النُصب تغييرات ملحوظة في تخطيط المنطقة التي تشيد فيها، وفي تطلعات المواطنين كانعكاس لطموحاتهم او لاستنبات ثقافة جديدة من خلال المعاني المرتبطة بها.
نجح نصب الشهيد في أن يصبح جزءاً من المدينة والناس والثقافة. و مما لا شك فيه ان الجانب الجمالي للنصب لعب دورًا رئيسيًا في نجاحه، غير ان جوانب أخرى منحت النصب ابعادا تتعدى البعد الفني و أبرزها موضوعه و المعنى الانساني المرتبط به. اضافة الى عراقيته، و سهولة الوصول و القرب البصري.
الموضوع و المعنى في الثقافة المحلية
الاستشهاد هو اسمى مراحل نكران الذات باعتباره تضحية بالنفس من أجل فكرة او مبدأ. و أكتسب نصب الشهيد أهمية مضاعفة بالنسبة لغالبية العراقيين خصوصا بعد أن تضاعفت اعداد الشهداء منذ التصميم الاول للنصب الى يومنا هذا وتتزايد يوما بعد يوم، فأمسى نصب الشهيد رمزاً وطنياً لخلود الشهداء.
أن هذه الصلة الوثيقة بين الناس و النصب هي غير اعتيادية في بلد كالعراق، فهناك العديد من الأمثلة الحديثة عن النصب و المواقع التي دمرت بعد تغيُر الأنظمة الحاكمة، و من الأمثلة الأولى على ذلك في التأريخ الحديث هي الفترة التي تلت نهاية النظام الملكي، و استمر هذا النهج كنمط نموذجي يعكس فهم الطبقة الحاكمة للفن على أنه مجرد أداة دعاية مؤقتة وليس مرجع تاريخي لفترات محددة في تاريخ الأمم.
تمثال الجنرال ستانلي مود في بغداد ازالة تمثال الجنرال ستانلي يوم 14 تموز 1958 و نهاية الحكم الملكي تمثال الملك فيصل الاول الذي ازيل يوم 14 تموز 1958 و اعيد نسخه عن هذا التمثال في مدخل شارع حيفا في ذكرى ثورة 14 تموز عام 1986 عام 1963 و بعد اغتيال رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم و تغير نظام الحكم و كانت هنالك اراده لازالة نصب الحرية لولا تدخل الدكتور محمد مكية و المعمار قحطان عوني و اقناع امين العاصمة بالعدول عن هذه الفكرة هدم نصب الجندي المجهول عام 1982، يظهر في الصورة مصمم النصب رفعة الجادرجي مع المقاول السؤول عن الازالة اول عمل قام به الجيش الامريكي عام 2003 عند دخولهم مركز بغداد
الابداع المتكامل و النُصب العملاقة
لا ينبغي اختزال نصب الشهيد وأثره في رمزية القبة المشطورة فقط، فالأبداع هنا على مستويات، الظاهر منها هو القبة في حين ان مستوى الابداع الباطن هو الابداع المتكامل لفرق التصميم و التنفيذ و دمج الخبرات و الاختصاصات التي قدمت النصب ككل.
ان حصر دور النحات في تصميم عناصر ما فوق الأرض من النصب (القبة والعلم و الينبوع) و تحديد دور المعمار بتصميم عناصر ما تحت الأرض كالمتحف و مقاربات النصب يؤدي الى سوء فهم كبير للعملية التصميمة و يقلل من أهمية تكامل الاختصاصات و الذي يعتبر ركن أساسي لنجاح الُنصب العملاقة، في حين الاعتراف بالأبداع الجماعي و تكامل النحت و العمارة لا يقلل من قيمة دور أي من المبدعين. و ما يملئ مدننا ابتذالا اليوم هو نتيجة لقرارات تصميمية فردية تفتقر للعمق المعرفي المطلوب دون أي اعتبار للاختصاصات المكملة و الضرورية لتطوير تلك الاعمال.
أي عمل نصبي بهذا الحجم لا يمكن إنجازه بدون تكامل الاختصاصات في مراحل التصميم و لاحقاً في التنفيذ، خاصة ان التعليم المعماري و النحتي لا يهيئان المعمار و النحات على تحقيق مثل هذا الأثر على هذا النطاق دون تكامل كلا المجالين في مرحلة التصميم التي لا تنتهي بعد وضع الرسوم الأولية. لهذا يقدم نصب الشهيد مثالاً متميزا للتعاون و التكامل الذي تم تعزيزه من خلال البحث الشامل والتكنولوجيا المتقدمة التي قدمها الاستشاري الانشائي و المقاول.
عام 1980غيرت نتائج دراسات الشركة المقاولة مادة تغليف القبة من استخدام الصفائح المطلية بالذهب وهو المقترح الأولي إلى بلاط السيراميك الأزرق المزجج (الكربلائي)، المبطن بخرسانة مسلحة بألياف كربونية خفيفة للغاية تم استخدامها لأول مرة في العالم بعد اقتراح الاستشاري الانشائي البريطاني “اوف اروب”.
مع ذلك اجرت الشركة المقاولة اختبارات أنفاق الرياح لمعرفة تأثير ضغوط الرياح على نصفي القبة و اختبارات إضاءة القبة و هندسة الصوت بالإضافة لدراسة العكس الحراري و الضوئي لاحتساب التجمع الحراري على نصفي القبة و على أساسها جهزت بفتحات تهوية طبيعية للتقليل من درجات الحرارة العالية التي قد تؤثر على متانة الهيكل الحديدي في الداخل. تم تصنيع بلاط السيراميك المزجج و بطانته و اطاراتها الحديدة في مصانع الشركة المقاولة في اليابان وتم تركيبها في الموقع لاحقاُ. و كان لتلك الدراسات الشاملة و الابداعات التكوينية و الانتاجية دورا في المحافظة على رونق النصب الدائم، فعند النظر اليه ضمن السياق الحضري لمدينة بغداد يعطي انطباعا للناظر بأنه مشيد حديثا.
من المثير للاهتمام أن السيراميك الأزرق الذي أستخدم في تغليف القبة لم يكن درجة واحدة من اللون الأزرق. فبعد قرار استخدام بلاط السيراميك الازرق، زار المصممون 6 جوامع مختلفة و جمعوا عينات من كل منها لمعرفة درجة اللون الأزرق المستخدم في قباب الابنية و الجوامع العراقية . فوجدوا ان لقبة كل جامع درجات لونية مختلفة من الأزرق. و على هذا الأساس قرر المصممون ان تحتوي ألواح القبة التي تتكون من حوالي 30 بلاطة على ست درجات مختلفة من اللون الازرق مرتبة بشكل عشوائي وبنسب مختلفة لإعطاء القبة لونها الازرق العراقي.
فيما بعد أصبح المنجز الإبداعي للنصب من ناحية المقاربة التصميمية و ترابط العناصر و جماليته بشكل عام مصدر إلهام لعدد من المباني و الاعمال الفنية العامة في العراق. وبغض النظر عن الصفات الجمالية لهذه الاعمال (أوعدمها) فقد حاولت هذه المباني إما التحقيق في تحديث عنصر معماري في نهج مشابه لمقاربة نصب الشهيد التصميمية أو كانت نسخًا مباشرة منه. و هذا تأكيد على تأثير النصب في المجتمع المعماري والفني جمالياً و لكن يلاحظ في هذه الاعمال عدم تأثرها بأسلوب العمل الجماعي لنصب الشهيد و افتقارها الى التكامل ما بين النحت و العمارة و الى الفهم المعماري.
سهولة الوصول و القرب البصري
شهدت بغداد العديد من الاعمال الفنية العامة والمعمارية التي أعادت تشكيل أفقها. و لم تكن جميعها متاحة للعامة ومثال على ذلك نصب الجندي المجهول الذي جاءت فكرة إنشائه في نفس وقت مسابقة نصب الشهيد عام 1978، واكتمل في عام 1983.
تم بناء نصب الجندي المجهول في “حي الحكومة” اي المنطقة الخضراء حالياً، مجاورا للوزارات والقصور الحكومية. النصب التذكاري هو للجنود المجهولين الذين استشهدوا وهم يقاتلون من أجل العراق. بعد اكتماله كان من الصعوبة على ذوي الجنود المجهولين زيارة النصب، كما كان و مازال يتم ايقافهم واستجوابهم إذا حاولوا زيارته أو التقاط صور له أثناء وجودهم على الطريق الرئيسي القريب، خاصة و ان ثقافة “ممنوع التصوير” مازالت قائمة في العراق.
في حين يقع نصب الشهيد بالقرب من مركز بغداد بالإضافة إلى قربه من أكثر مناطقها كثافة بالسكان. وهو محاط بطريقين رئيسيين تؤدي إلى جامعات المدينة الرئيسية وأهم مرافقها الرياضية. الشكلان الرئيسيان للنصب اي القبة المشطورة والراية هو مشهد يتمتع به عشرات الآلاف من العراقيين كل يوم في حين أن العديد من المواقع العامة و التأريخية و الثقافية في العراق “مخصصة للناس” غير أنه يتعذر الوصول إليها و معزولة بصرياً. بينما يمكن رؤية نصب الشهيد كل يوم وغالبًا ما يتم تصويره و التقاط الصور معه و الإحساس بفكرته و تجربته التصميمية بشكل مباشر او غير مباشر، أضافة الى أن التفاعل البصري مع النصب من خلال الحركة حوله تخلق شعور بالفضول للتعرف على النصب أكثر و التقرب منه و النظر اليه من زوايا مختلفة. كل هذه الأسباب المرتبطة بسهولة الوصول و بدون عواقب والقرب البصري تجعل من النصب جزءاً لا يتجزأ من المدينة و مشهدها اليومي.
الفكرة التصميمية و ترابط العناصر
حاول المصممون إعطاء الناظرين والزوار تجربة فريدة، وتذكير بحجم تضحية الشهيد من خلال إعداد مشهد تجريدي يمكن رؤيته وسماعه والاحساس به.
يكشف الوصول إلى النصب التذكاري عبر شارع فلسطين عن نصفي القبة حيث يتباعد النصفان عن بعض و يتوضح الانشطار تبعاً للحركة حول النصب. عند وصول الزائر إلى المدخل الرئيسي يكون انشطار القبة واضحاً، وعند اقترابه من المنصة تتشارك العناصر الرئيسية الثلاث للنصب التذكاري – القبة والعلم و الينبوع – في سرد تجريدي متزامن.
يبدأ السرد بتجسيم فعل الاستشهاد وقوته التي تتسبب في انشطار القبة و ترتفع روح الشهيد من الأرض إلى السماء. يجسد تشكيل الراية جسد الشهيد ملفوفًا بالعلم العراقي يخرج من تحت الأرض متجها نحو السماء، مما يوضح العلاقة المتجذرة بين الشهيد وأرضه.
اعيد تصنيع الراية بعدها مرتين من مادة الأكريليك لتتماشى مع تغييرات العلم العراقي، اول تغيير بعد إضافة “الله أكبر” عام 1991 و الثاني بعد ازالة النجمات الثلاث من العلم و تغيير الكتابة من خط يد صام حسين الى الخط الكوفي
بنفس الوقت يتدفق ماء الينبوع من مستوى المنصة إلى المستوى الأدنى تعبيراً عن سخاء عطاء الشهداء. ماء الشلال هنا يرمز إلى هذا العطاء المنهمر كما أنه يمثل استمرار الحياة على هذه الأرض نتيجة تضحيات الشهداء.
أن استخدام المياه هنا مثير للإعجاب، فصوت سقوط الماء يرمز الى قوة فعل الشهادة وهو السائد في المكان بين نصفي القبة مما يعزل الزائر عن محيطه و يركز احساسه على ما في داخل النصب.
بضعه خطوات أسفل السلم الرئيسي المحاذي للينبوع يظهر تكامل هذه العناصر و المشهد الذي يبين قوة فعل الشهادة من خلال المقياس الفائق للقبة والعلم الذي يلف جسد الشهيد تاركًا الأرض نحو السماء ممزوجا بمنظر الماء وهدير سقوطه. من هذه الزاوية كل شيء يقع في طي النسيان عدا هذه العناصر الثلاث.
يحتوي النصب التذكاري على عنصرين آخرين يقعان أسفل المنصة: الخندق و جدار الشهداء. تمثيلات الخندق متعددة كما ذكرها المصممون لكن المعنى الأهم هو تشبيهه لساحة المعركة والى وجود المقاتلين في المقدمة وعلى محيطه لمواجهه الخطر واستشهادهم هناك. طول جدار الشهداء أكثر من ثلاث كيلومترات في منطقة الخندق و داخل المتحف. تضم الجدران الرخامية والحجرية الداخلية والخارجية أكثر من 150,000 مائة و وخمسون ألف اسم تم نقشها يدوياً بين عامي 1988 و 1993 ونقوش لأشجار نخيل ومياه تجري من تحتها ورموز عراقية أخرى.
أن ما يميز جدار الشهداء هو حفر هذه الجدران يدويًا وليس ميكانيكيًا مما أتاح هذا القرار فرصة فريدة للعديد من الخطاطين و النقارين والعديد من طلاب اسماعيل والنحاتين الشباب الذين أصبحوا الآن فنانين معروفين لممارسة مهنتهم.
استخدم الخندق كعنصر حماية للثكنة العسكرية بين عامي 2003 و 2009 طول جدار الشهداء أكثر من ثلاث كيلومترات في منطقة الخندق و داخل المتحف تضم الجدران أكثر من 150,000 مائة و وخمسون ألف اسم تم نقشها يدوياً بين عامي 1988 و 1993 ونقوش لأشجار نخيل ومياه تجري من تحتها اسماعيل الترك مع مجموعة من الشباب العاملين في نصب الشهيد
منذ افتتاح نصب الشهيد حتى عام 2003 ، كان أحد ثلاثة أماكن احتفالية رسمية رئيسية تستخدمها الدولة. بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 ، أصبح نصب الشهيد ثكنة لقسم من الفرقة المدرعة الأولى في الجيش الأمريكي، وتم إغلاقه أمام الناس. كما هو الحال مع العديد من المواقع الأخرى التي احتلتها القوات الأمريكية، سقط نصب الشهيد في حالة سيئة وتضرر بشكل كبير بسبب الاستخدام العسكري الثقيل وحركة الاليات داخل الموقع أضافة الى تضرر و اختفاء بعض أجزاء النصب مثل الاكليل البرونزي في منطقة الراية.
أعيد موقع نصب الشهيد إلى الحكومة العراقية في عام 2009 دون اصلاح الاضرار من قبل الجانب الامريكي.
نهاية الجزء الثاني