بعد عاصفة مطيرة، إستيقظت مدينة جنوى في الرابع عشر من أغسطس 2018 على فاجعة غير مسبوقة: إنهيار جسر موراندي، الذي يمتد لـ 210م على طول الطريق A10، ويُعد شرياناً هاماً للنقل الاوروبي بين إيطاليا وفرنسا. تعود بداية إنشائه الى 1963، وإسمه الرسمي هو: جسر بولتشيفيرا، في إشارة الى النهر الذي يمُر من فوقه، لكنه يُدعى بموراندي تيمناً بإسم مصممه الإنشائي: ريكاردو موراندي.
حصيلة الإنهيار وصلت الى 43 ضحية، والعديد من الجرحى. وأشارت التقارير الى أن السبب هو سوء البنية التحتية، وتردي خدمات الصيانة الدورية. وظهرت أصوات تطالب بمحاسبة المسؤولين، والشركة التي تملك حقوق الاوتوستراد في إيطاليا (وهي تعود للشركة الام التي تملك ايضاً ماركة United Colors of Benetton للملابس). وحملات اُخرى تدعو لتأميم الطرق السريعة والجسور، بدلاً من خصخصتها.
منحت هذه الكارثة للإيطاليين لحظات جديد من الوحدة الوطنية، وهي جرعات تقوية يحتاجها هذا البلد المُقسّم نسبياً من حين لآخر. رُبما كان آخرها فوز منتخبهم الكروي بكأس العالم في 2006، وتتويجات فالنتينو روسي، مُتسابق الدراجات النارية المعروف.
وبدوافع الإنتماء، التعاطف، والتمكُّن التقني أيضاً، بادر المعمار رينزو بيانو (1937) الى تقديم تصميم للجسر الجديد (اُفتُتح في أغسطس 2020)، خصوصاً إن جنوى هي مدينة ولادته ونشأته، التي إنطلق منها نحو العالم، كما فعل مواطنه الرحّالة كريستوفورو كولومبو. وفيها يقع مكتبه المعروف (Renzo Piano Building Workshop)، وله فيها عدة مشاريع منفّذة، ومقترحات لتصورات مختلفة. فقدّم التصاميم كهدية من مكتبه، مع كل ما سيلحقها من تفاصيل.
مبادرة رينزو بيانو إنسانية بلا شك، فهو المعمار الأشهر، أحد المئة الأكثر تأثيراً في العالم بحسب التايمز (2006) و آخر من فاز ببرتزكر من الإيطاليين (1998). وهي ليست هديته المعمارية الوحيدة، فقد أهدى أيضاً جامعته – البوليتكنيك في ميلانو – تصاميم مبنى جديد مع إعادة تطوير الساحة المحيطة به (تحت الإنشاء 2021). ومن المُثير للسخرية أن إبن جنوى، المدينة المرتبطة بمفهوم البُخل في إيطاليا، هو أكثر من وهب من معماريي البلد. ربما أيضا لإقتداره، بأعتبار أن مكتبه هو الثالث من حيث الدخل السنوي في إيطاليا (13.2 مليون يورو)، وبثروة شخصية تجاوزت الـ 20 مليون دولار.
إلا ان بعض التعليقات هنا وهناك رأت إن سلوك المعمار مخالف لإصول المهنة، وربما إستغلالي بعض الشيء. نعم، هو لا يحتاج للترويج لنفسه بهذه المبادرات، ولكنه قفز على المساقات الرسمية. فبدلاً من أن تمضي عملية إعادة الجسر بالطرق القانونية المعروفة، بمسابقة مفتوحة أو بدعوة خاصة، (لأن المشروع عام، وليس خاص)، منح نفسه شرف، وفُرصة التكليف المباشر.
لم ترفض بلدية المدينة مقترحه، وفضّلته على مقترح المعمار الإسباني سانتياغو كالاترافا (المجّاني أيضاً)، لأنه – حسب كلمات عُمدة جنوى – سيوفر في التكاليف، مُتقن وجميل، وبالطبع، للحاجة العاجلة لإعادة الجسر الجديد، الذي في حال لو قُدِّم بمسابقة فسيتأخر لمدة من الزمن. حيث تشير الدراسات إن البيروقراطية في إيطاليا تستغرق في العادة ضعف مثيلتها في فرنسا، وضعفيها في هولندا، للأعمال ذاتها.
أنا أرى إن موقفه إنساني ونبيل، في وقته، كوني تعايشت مع أصداء الازمة، ولكني أخشى من تكرار هذه المواقف مستقبلاً، في أزمات اُخرى ومن قبل معماريين آخرين، ليتم ترسيخها والتعامل معها بشكل إعتيادي. حيث تُمنح أعمال التكليف او التطوير العامة بطرق غير شفافة، وبحسب العلاقات أو السُمعة! بحجّة التبّرُع أو الـ ”فزعة“، بدلاً من المضي بمساقات مهنية، تبحث عن المُقترح الأنسب وبشكل موضوعي.
لا ننسى إن المُنعطف المهني لحياة بيانو كان لحظة فوز مقترحه مع زميله ريتشارد روجرز بمسابقة مركز بومبيدو في باريس. ولذلك، تُقلقني فكرة إن ”شيخ“ اليوم، قد ينسى النظام العادل الذي منح الفرصة للـ “شاب“ الذي كان عليه في يوم من الايام. وهنا أستذكر مقولة منسوبة للشاعر الروسي رسول حمزاتوف: ”إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي، أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك.“
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه المجلة