Demagogue

معماريون. ديماغوجيون.

معلومات عن الكاتب
محمد الصوفي
معمار و كاتب، ماجستير عمارة من جامعة البوليتكنيك في ميلانو

بالسياق السياسي، تٌعرّف الديماغوجيا بأنها: “دغدغة مشاعر العوام”، “سياسة إغراء الجماهير”، أو: “الأساليب التي يتبعها السياسيون لخداع الشعب وإغراءه ظاهرياً، للوصول للسلطة وخدمة مصالحهم”. إلا إنها كطريقة تعامل مع آخرين، حاضرة في أكثر من مجال، ومن ضمنها العمارة.

أرى أيضاً إنها (الديماغوجيا) تختلف عن الشعبوية، فالأخيرة هي النتاج أو الخطاب الذي يكون نابع من جهة أو ذات بمستوى أو ينتمي لهذه الجماهير، بجهلها، إستعجالها، وعاطفيتها الطاغية على التفكير الناقد، لكن الديماغوجيا هنا، هي ما يصدر أو ينتج عن ذات أعلى مقاماً من متوسط تلك الجماهير، ذات مُدركة وعارفة، وربما تمتلك المهارات التي تؤهلها لتقديم خطاب أو عمل يحمل قيم تقدمية وتنويرية، الا إنها بدلاً من ذلك تتقصد دغدغة مشاعر الجموع في مواضع عاطفتها. ربما ليأسها من جهد التنوير، تكاسلها من التجديد، طمعاً بالسهولة، أو لأسباب اخرى.

باعتقادي، فإن تلك ”الدغدغة“ أو ”التملُّق“ تكون أما بالخطاب بشكله العام، أو من خلال مفردات العمل المعماري نفسه، (أو الإثنين سوية).

لأن الخطاب ليس موجهاً لأفراد مستقلين مختلفين فيما بينهم، بل نحو جماهير تمتلك قناعات مشتركة، لذلك سيحرص على العزف على وتر المشتركات، من خلال إستخدام ما يجمع الجماهير من رمزيات ومقولات، وأسهلها هو ما يتعلق بالتاريخ، الدين، وكل ما يمس الهوية. سيحمل الخطاب على الدوام نزعات إحياء الماضي العريق، أو كليشة الإستلهام من قيمه” الاصيلة“، للإنطلاق نحو المستقبل، للتطور والازدهار، التنمية، وكل ما يشابه هذا التوجه، في وصف المشروع وتوجهه التصميمي، والترويج له ولأهدافه التي سيحققها، بشكل يطغي على التحديات المستقبلية، الرسالة المجتمعية، رسم سيناريوهات معاصرة، أو التطرُّق لنقد ما يجب نقده في هذا الماضي.

أما من ناحية مفردات العمل المعماري، فيصعب علي تخيّل هذه الدغدغة مترجمة بطريقة غير مباشرة، أو مخفية، فبهذه الحالة ستحتاج لجهد تأويلي لاكتشافها، ولاننسى إننا نتحدث هنا عن مستوى غير عالي من التلقي. بالتالي، إذا فككنا العمل المعماري على الأقل لأسس مشابهة لتلك التي وضعها فرانسز جينك: شكل، فراغ، ونظام. فسنجد إن الفراغ والنظام هما أجزاء من مفاهيم معقدة نسبياً، غير ملموسة، تخاطب الفكر والحواس، لا الغرائز. ونادراً ما تنجح بالوصول لمشاعر الجماهير، أي، لا بد من اللجوء الى الناحية الشكلية، باعتبارها موجودات مادية، مرئية، واضحة الدلالة وصريحة المعالم، وتلقيها لن يستغرق وقتاً قبل أن يحيل الى طمأنة (ودغدغة) التحيزات المسبقة لدى الجموع.

إن المعمار\ة الذي يمارس الديماغوجيا هنا، قد يستخدم ذات التوجه بالتركيز على مشتركات الجماعة، ولكن بهيئتها الشكلية، بدلا من مقولاتها أو رمزيتها، سينسخ عناصر تاريخية، أو يلصق اخرى ويعيد تكرارها، بجمودها وقدمها. دون إعادة تأويلها أو إبتكارها، لان أي جهد إجتهادي مُتقدِّم قد تغفل عنه الجماهير، ويفشل بالنهاية من غايته بتملق مشاعرها. وفي إطار بلد كالعراق، فتلك العناصر هي غالبا رافدينية أو اسلامية، وربما هناك ثالثة عروبية قومية، لكنها اُقصيت سياسياً. أي إنها بمجموعها ماضوية بكل الحالات، بدلاً من إقتراح نموذج عيش مديني مستقبلي.

ما يُستثنى هنا من رأيي، هو وجود الشفرتين معاً – بحسب تعبيرات ما بعد الحداثة في سياق مختلف -، أي، وجود ما تستلطفه الجماهير (قد يكون وظيفيا، لا شكلياً)، محتوى من قيم أو ملامح تقدّمية، تحمل الإجتهاد الفني اللازم، وتدفع بالمسيرة الى الامام. وكمثال غير معماري على ذلك، هو ما موجود في العديد من المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية، كالكونشيرتو ذات الثلاث حركات، حيث تكون الحركة الاولى متوسطة أو سريعة، مرحة عموماً (Allegro)، الثانية متوسطة أو بطيئة جداً (Andante, Moderato, Adagio)، والثالثة غالباً سريعة، مبهجة أو حيوية (Allegro, Allegretto, Vivace)، لغرض إعلام المستمعين خبر الوصول الى النهاية وموعد التصفيق. ولطالما ظننت إن المؤلفين الموسيقيين أنفسهم يقولوا ما عندهم في الجزء الثاني، إلا إنهم يعرفون محدودية متوسط التلقي، فيعودوا ليمنحوا الجمهور ما يريدوه أو يستطيعون فهمه والإحساس به في الحركة الثالثة.

في النهاية، فإن ممارسة الخطاب الديماغوجي ليست جناية، ولا جنحة، ولا حتى مخالفة، من الناحية القانونية. ولكنها ربما من الناحية الاخلاقية أحد مراحل التخلي عن الضمير.

الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه المجلة