مِمَّ يشكو تراثنا المعماري “التقليدي”؟ والى اين يتجه؟

معلومات عن الكاتب
د. هيثم عبد الحسين داموك
باحث وأكاديمي

كاستقراء بديهي، عادة ما يكون النظر لتراثنا المعماري بنظرةٍ تسودها العاطفة المصحوبة بالتمجيد والوقار. ولربما هذه نتيجة طبيعية بفعل طبيعة الانسان عموما والشرقي العربي خصوصا المرتبطة بفكرةِ الاصل، التوريث، النسب (الاباء والاجداد) مع التمسك بالقيم المتمثلة بالتقاليد الموروثة وسلطة الاعراف المتوافق عليها القابلة للاستمرار والامتداد النسبي. فكان ذلك سببا لسيادة دور تلك العاطفة لتظهر جميعها كمعيار للحكم على جودة تلك النتاجات المعرفية الموروثة والتي تجسدت بالأبنية او بالنصوص المادية (Materials texts) القيَمة.

هذا الارتباط العاطفي مع التراث كان حصنا وحارسا وجذرا لمواقف معاصرة همها الاول محاولة الحفاظ (conservation) والابقاء على التجربة الماضية (التراث المعماري) ومن ثم محاولة اعادة انتاجه في زمن لاحق بفعل رغبة الحفاظ واعادة التكرار الناتجة عن الحنين الى الماضي والتي تسمى بـ (Restorative type of  Nostalgia).

بالتالي فأن الاجابة عن التساؤل المطروح: ما اصاب تراثنا المعماري او مِمَّ يشكو تراثنا المعماري التقليدي حاليا؟ قد تحمل وجها اخر ينقلنا من النظرة التعاطفية التحيزية العامة للتراث الى النظرة التحليلية النقدية الحيادية داخل مفاصل التراث نفسه وما جرى عليه من تحولات عبر الزمن.

التساؤل هنا يحمل اقرارا ضمنيا بوجود وهن وضعف في استمرارية التراث المعماري وحتى العمراني على ما كان عليه ابتداءا. وفيه استفسار خفي عن ماذا ينفع الحب وحده في شفاء الحبيب العليل، فمن خلال الملاحظة للواقع المشهود نجد انحسار التراث المعماري التقليدي، تقادمه واقتصاره على مناطق محددة، كما ان من خلال النظر الى محيطه وما يقابله حاليا نجد ان هناك سيادة انماط بنائية مغايرة، سيادة لأبنية حديثة، وظائف حديثة، ارتفاعات شاهقة، مواد بناء وانهاءات جديدة، آليات واجهزة وتقنيات، وشق طرق وشوارع. كل ذلك ربما يعد مؤشرا لتوقف التراث هناك اضطراريا، في تلكم الحقب الزمنية الماضية والمحددة. مما يعطي ايحاءا بوجود نوع من الانقطاع في استمراريته، ولعلنا هنا نتفق ان تراثنا المعماري التقليدي الان منهك ومتقادم ومنحسر.

ومن اجل تحليل وتقييم التراث المعماري التقليدي بالإمكان النظر اليه من خلال مجهر تكبير عملية ومراحل صناعته الاولى، مع افتراض ” ان صناعة التراث المعماري تمر بثلاث مراحل”، اولها مرحلة القيمة الخام المجسدة (Value) فالبعض اشار الى ان التراث المعماري التقليدي والنصوص المادية المتمثلة بالأبنية هي نتيجة لمعرفة ودراية وان كان منتجيها هم عامة الناس، لتكون لاحقا ثقافة تنبع من المجتمع فما من انتاج لمبنى تقليدي تراثي الا وكانت التقاليد والعرف (Traditions and custom) هي اساسه، بالتالي التراث المعماري هو نتاج قيم ونافع نابع من ثقافة مجتمعية في حينها، ومن هنا ربما جاءت قدسيته (تبجيله واحترامه)، تنعكس قيمه وتتجسد حتى على سلوك افراد المجتمع ذاته اثناء الاستخدام وفي الحركة والتنقل ايضا لتولد صورة ذهنية مكتملة الادراك و قابلة للاستدعاء والتكرار لاحقا، اما ثانيها فهي مرحلة الانتاج المادي (Production) والمتمثلة بكيفية البناء والتشكل، وتكون الحرفة (Craft) والمواد الخام الطبيعية المرتبطة بالارض اساسا لذلك، من خلالها تتحول القيم الى بعدها المادي الشكلي والجمالي، وثالثها مرحلة الترويج والمنافسة (Competition and promotion) وتمثل المواكبة ومواجهة النتاج المعاصر او الاخر، هذه المرحلة تميل الى حدوث التنافس العنيف في الافضلية بين ما هو سابق وما هو معاصر، بين التراثي والحديث.

ولو حللنا ما اصاب المرحلة الأولى، انتقاء القيم المجسدة، نجد ان اغلب تلك القيم جاءت من التقاليد التي تحولت بمرور الزمن الى اعراف، كما ان التقاليد والاعراف تمثل ضابطا قانونيا شعبيا غير رسمي (Informal) ان صحت تسميته، ثم يتم تداوله وتعميمه بفعل التفاوض والتوافق بين الافراد وتخضع سلوكياتهم له رغم تنوع اذواقهم وغاياتهم، وبما انهما بعنوانهما الاعم يمثلان بعدا ثقافيا اجتماعيا والثقافة في اصلها تعاني من التغير الحتمي لذا فان تلك القيم المنتقاة ستكون متغيرة حتما لتحل محلها قيم اخرى تتماشى مع الاذواق والغايات المتعددة والجديدة لتعمم مرة اخرى وتكون تقليدا جديدا ربما، كما في الوقت نفسه ان وجود النصوص القانونية بما فيها (قانون الدولة الخاص بالبناء و تخطيط المدن) بشكله الرسمي (Formal) قد اضعف كثيرا من سطوة وسلطة الاعراف ليحل محلها بسلطة اكبر وافخم ويختزل الكثير من التنوع بحجة ايجاد مساحات مشتركة اكبر بين الناس، و لاسيما اذا كان هناك تعارض بينهما، ليكون البقاء للقانون الرسمي بدلا من القانون الشعبي. وبهذا فأن قيم التراث النابعة من المجتمع اصبحت في معظمها غير قادرة على المواكبة والاستمرار بل انها تعاني من الانحلال والاستبدال. فالتقاليد كما انها قابلة للولادة والتعميم فهي قابلة للاضمحلال والموت ايضا.

اما المرحلة الثانية، مرحلة التشكل والانتاج، كانت الحرفة مسؤولة عن تحويل القيم الى نصوص مادية والى جماليات بفعل المهارة البنائية والزخرفة والنقوش وغيرها، فقد جرى عليها ما جرى، حل محلها الانتاج الكمي (Mass production) التكرار المعياري السريع المتشابه (Modular)، حتى بالإمكان الادعاء هنا ان الحرف اصبحت مؤشرا لبطء الانجاز من جهة ولضعف جودة ربحية الانتاج المكرر من جهة اخرى، لذا بدأت الحرف تضمحل لتحل محلها الماكنة، وبدأت سلطة الماكنة تفرض على الجوانب الذاتية الانسانية والجمالية للمنتج المعماري لتوحيد الذوق، والاكثر اصبحت الوظيفة الرسمية المؤسساتية في دوائر الدولة هي مبتغاة الاجيال بديلا عن تعلم وتوارث الحرفة وهكذا حلت البدلات البيض (الموظفون الرسميون) بديلا عن البدلات الزرق (العمال والحرفيون والكادحون). فالحرفة قابلة للاضمحلال ايضا وتحتاج الى إنعاش، ويجب ان لا يكون الحل الوحيد باستيراد العمالة الماهرة والحرفيين من خارج البلاد كما يحصل اليوم في مشاريع التطوير للمدن المقدسة او مشاريع كردستان العراق.

الحرفة البنائية التقليدية وطرق التشييد وبناء العقود (الاقواس)

في المرحلة الثالثة، الترويج والمنافسة، تكمن المواجهة على اساس الاولويات والتنافس المُقصي لاحد الطرفين (التراثي – الحديث)، بفعل حضور الأخر بقوة، كان المستورد مقابل المحلي في ظل اتساع رغبة الجهات المستفيدة في الربحية من انتاج الابنية، كذلك تنافس المنتجين (المعماريين) في احداث اضافة جديدة مبدعة، او عمارة بصمة، انتشار طرق الانشاء الجديد، الوظائف والاستعمالات الجديدة، سرعة الانجاز، الامكانيات المادية، والمصلحة المطلوبة. وغيرها مما جعلت حلول التراث بمرور الزمن ينظر اليها بمحدودية في مجاراة المعاصر وتحقيق المطلوب من المبنى أصلا. هذه حالة التدافع ربما خلقت حالة من التحولات البنيوية التدريجية او ربما قد ازاحت جزء كبير من صور التراث المعماري عن واجهة الظهور والتكرار لتحل محلها النماذج الجديدة، وخاصة في تصميم البيوت (الاستعمال السكني).

لذا فخلاصة ما يشكو منه تراثنا المعماري هو ما اصاب مفاصل انتاجه من تغير واستبدال(Replacement) القيم والقوانين، اضمحلال الحرفة، والتنافس الإقصائي مع النتاج الحديث.

كل ذلك يجعلنا امام نتيجة (نظرية) ان هذه العلل الثلاث الضاربة في مفاصل تراثنا التقليدي قد تقود بالاتجاه الاول نحو اعادة التوجيه نحو التحول لنموذج قيم او تراثي جديد، فالتراث قابل للانتاج في اي زمن كان ومن يدري لربما ان “الأخر” المقابل للتراث المعماري التقليدي السابق سيكون تراثا جديدا لما بعد، ولاسيما ان اللاعب الاول لانتاج العمارة قد تغير من المجتمع الى النخبة.

او يكون الاتجاه الثاني نحو الاصرار على المقاومة والصمود من خلال صيانة وترميم النماذج التراثية المعمارية رغم كلفتها العالية ودقة اجراءاتها او من خلال نسخ التراث كما كان وبتفعيل مفاصله وهذا ربما ما يسمى بالسهل الممتنع لصعوبة الاعادة وتفعيل القيم ولدور المجتمع!!.

او يكون الاتجاه الثالث نحو القبول والاقتناع بآلية التطعيم اي جعل ما كان عميقا للبنية التشكيلية كالفناءات الوسطية لتعبيرها عن الخصوصية والتكيف المناخي او سطحيا وظاهريا من مادة بناء كالطابوق ومفردات معمارية كالنقوشات والزخارف او الاقواس مثلا من التراث التقليدي كدلالة عميقة عن استمرارية التراث المعماري ولاسيما مع الابنية ذات الوظائف والهياكل الانشائية المعاصرة لتكون هناك وصلة ارتباط تخاطب الصور الذهنية لمجتمعاتنا المحلية كما في تصميم الجامعة المستنصرية للمعمار قحطان عوني كنموذج شديد الوضوح ومتكامل عن هذا الاسلوب حيث تم اعتماد اسلوب التهجين والمزاوجة بين القديم والحديث.

الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه المجلة