قاربت الساعة الان على الرابعة فجرا وقبل قليل فقط انهيت قراءة كتاب جدار بين ظلمتين لبلقيس شرارة ورفعة الجادرجي، الكتاب عزلني عن العالم تمام منذ صباح اليوم حيث وقعت يدي عليه من بين مجموعة الكتب التي اشتريتها قبل يومين من الكرادة لم أستطع التوقف عن القراءة أبدا وكنت أعيد قراءة الاسماء والتواريخ فيه كل مرة.
حاولت التخلص من ادمانه وعدت لبائع الكتب نفسه سألته عن بقية الكتب التي اوصيته أن يجهزها لي ولكن طوال الطريق كنت كمن يعيش في فترة بداية الثمانينات وكأني احد الشخصيات التي هربت من بين صفحاته لا يمكن ان اجد تصنيفا حقيقيا لهذا الكتاب فهل هو رواية او قصة حقيقة ام انه كتاب معماري او هو وثيقة تاريخية مهمه تؤرخ لفترة محدده من تاريخ هذا البلد وتصور لنا كيف كان يعيش الناس حياتهم بكل تفاصيلها ومشاعرها وكيف تحول مجتمع كان على اعتاب الحداثة وأن يكون نموذجا لكل دول العالم الثالث تحول في لحظة الى سجن سوفيتي كبير الكل فيه متهمون والكل فيه مجرد أدوات وارقام لا أكثر فليس لأي انسان فيه قيمة ألا بقدر طاعته وخضوعه للسلطة ولرغباتها.
ما تعرض له الاستاذ رفعة هو مجرد صورة مصغرة لما يمكن أن يحدث لأي شخص يكون حر في تفكيره وغير خاضع لرغبات الاخرين وخاصة للسلطة، ففي بلادنا السلطة لا تحب أن ترانا نفكر او نعبر عن احلامنا لأنه حتى في احلامنا يجب أن نخضع، ربما هناك العشرات ممن تعرضوا لا قسى من هذه التجربة ولكن تجاربهم ومعانتهم الانسانية ضاعت في طيات الزمن لأنها لم تجد من يوثقها.
الفصول التي كتبتها السيدة بلقيس شعرت بالإنسانية تفوح منها وبالمشاعر والعواطف وطغى عليها اسلوب ادبي رفيع ربما مرده لكونها خريجة كلية الآداب ومتشبعة بالأدب ، تشعر أن شخصيات الكتاب خيالية وكأنها قصة بوليسية بامتياز فالكل مراقب والكل خائف حتى من يعمل مع السلطة خائف منها لا نه خاضع لها ربما بغير إرادته، فتحولت السلطة من كونها أداء لإدارة البلد وتحقيق طموحات افراده الى غول اسود يسيطر على كل شيء ويسرق حتى الابتسامات من الشفاه لأنه ربما يعتبرها استهزاء به، طوال فترة القراءة كنت أقارن بين المجتمعين سابقا وحاليا وكيف تغير كل شيء أين المؤتمرات والمهرجات الادبية والثقافية أين دور المثقف الحقيقي الان !! فكلنا أصبحنا مجرد دمى على مسرح كبير من الوهم، فكل ما ننتجه لا يتعدى وهم ابداعي نحاول ان نرضي به غرورنا مره وفي مرات كثيرة نتعكز على الظروف التي تمنعنا من ان ننتج ابداع حقيقيا.
اما الفصول التي كتبها الاستاذ رفعة ورغم قساوة التجربة لم ينسى كونه معماريا بامتياز فكان رغم الاجواء المشحونة والخوف داخل السجون والتحقيق تره يؤكد على وصف أقبية السجون معماريا وبالمقاسات احيانا ويصف لك الفضاءات والعلاقات بينها ودخول الضوء للمكان تشعر انه يدرس المكان ليعيد تصميمه من جديد ولا تشعر انه سجين فتارة يصف قياس الزنزانة والتي طولها مترين وعرضها متر وسبعون سنتمتر وتارة يصف الدرج الرابط بين مستوين وطريقة الانتقال بينهما ، رفعة ولد ليكون معماريا فجينات العمارة تسري فيه وتؤثر على سلوكياته حتى في اصعب الظروف واكثرها سوداوية.
التساؤل الكبير الذي يدور في راسي هو كيف يتحول الانسان من كونه انسانا الى مجرد رقم! كيف يستطيع انسان ان يجرد انسان من كل سمات الانسانية ويحوله الى شيء بلا مشاعر واحلام الى مجرد رقم! كيف أصبح وضع العراق هكذا؟ من اين جاء هؤلاء بكل هذه القسوة والخضوع والتذلل للمنصب والسلطة؟ يبدو ان موهبة رفعة كمعماري ومكانته وشهرته في الاوساط الثقافية والعلمية لم تمنعاه ان يأخذ حصته من العذاب كأي عراقي، فالعراقي لا يخرج من العراق ولا يموت الا بعد ان يأخذ حصته كاملة من العذاب والالم، انها لعنة.
وضع العراق لم يتغير كثيرا الان بل ربما الى الاسوأ فبدل الخوف من السلطة سابقا أصبح الخوف متشعب ومتعدد المصادر، مرة تخاف من تابوهات الدين ومرة من الانتماءات السياسية ومرة من العشائرية التي اصبحت تسيطر على مجتمعنا بصورة مخيفة ولا ننسى كل تلك الخطوط الحمراء التي يطوق المجتمع بها نفسه ويطلق عليها العادات والعرف والقيم الاجتماعية والتي أصبح مجرد التفكير في تجاوزها يشكل خطير كبير على الشخص لأنه بنظرهم يحاول ان يكون خارج القطيع وهذه لوحدها كافية لتنهي حياته في بلدنا. رجل الدين وشيخ العشيرة وقائد الحزب السياسي كل هؤلاء أصبحوا سلطة مطلقة وحياة أي انسان لا تحتاج سوى لكلمة واحد منهم لتنتهي، يبدوا أن الخوف لا يريد ان يتركنا نرى السماء زرقاء ونسمع زقزقة العصافير.
اصبحت المحرمات كثيرة جدا وتكاد تخنق أي تفكير حر ومستقل وأصبح الوضع لا يطاق والاكثر خطرا هو ان المجتمع كله أصبح خاضع ومتذلل ومستعد لتقبل اي اهانة ولا يكترث أحدنا للأخر ابد، وكما يقول مانديلا ” ليس حراً من يُهان أمامه إنسان ولا يشعر”.
الكتاب يطرح الموضوع بطريقة جميلة وشيقة فرغم اشتراك شخصين في تأليفه الا أنه يترك مساحة كافية لكل كاتب وكأنك ترى الامور من زاويتين مختلفتين في نفس الوقت. قرر الكاتبان ان يكتبا عن تجربه عاشها سوية ولكن كل من جانبه وحتى انهما لم يطلع أحدهم على ما يكتبه الاخر طيلة فترة الكتابة وهذا درس جديد في الامانة العلمية والتاريخية.
يأخذنا الكاتبان معهما في رحلة عبر الزمن الى فترة ربما يعتبرها الكثير من العراقيين فترة ذهبية للثقافة والادب والعلوم وهي فترة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي غير مدركين للمعاناة التي كان يعاني منها مفكرو وعلماء تلك الفترة وكيف كان البلد يدار عن طريق المزاجيات والاهواء الشخصية والهبات وكأننا نعيش في دولة من دول أوربا الشرقية حيث الكل في خدمة الحاكم، ففي تلك الفترة تعرض الكثير من العراقيين للتنكيل والتعذيب والملاحقة لمجرد الشبهات ولمجرد وجود صلة مع شخص غير خاضع للسلطة مما جعل المجتمع يتفكك على نفسه ويتخلى الاهل عن ابنائهم والصديق عن صديقه للحفاظ على حياته كما حصل مع الكاتبان عندما اضطر الكثير من اصدقائهم للابتعاد عنهم للحفاظ على حياتهم من ملاحقة السلطات وهو الامر الذي شكل انتكاسه وصدمة نفسية اخرى لبلقيس ورفعة.
تتناوب الفصول في سرد المعاناة بين ما يعانيه الاهل والزوجة والاصدقاء وبين معاناة المفكر خلف الاسوار فتجد انواع التعذيب والحرب النفسية ومحاولة طمس هوية الانسان وكيانه بشتى الوسائل وتحويل كل شيء يحصل عليه الى هبه حتى نفس الهواء وشعاع الشمس فمجرد السماح لك بالحياة في بلد مثل العراق يعتبر منحة ومكرمة من السلطة يجب ان تكون شاكرا عليها حيث كان النظام في تلك الفترة يشكل نواة دولة بوليسية وامنية بامتياز فحاول ان يجعل من الجميع عبره ودرس وهو الامر الذي استمر بعدها لثلاثون عام.
وكما في نهاية القصص السينمائية ينتصر الخير ويخضع الشر، فرغم البطش والتعذيب انتصر رفعة على السلطة وجعلها تخضع له مرغمه لأنها أدركت ان دور المثقف اساسي في بقائها واستمرارها وأن كانت مرغمه على ذلك فلا يمكن لأي بلد ان يعيش بلا ثقافة وبلا بصيص من حرية الفكر، ولكن رغم خروجه من السجن اجبرته السلطات بان يعمل معها – كأستشاري لامين العاصمة في مشروع تجميل مدينة بغداد لاستضافة قمة رؤساء دول مؤتمر عدم الانحياز – لقاء حريته فلا شيء دون مقابل كل شيء مكرمة وهبه حتى حرية الانسان.
في النهاية خرج رفعة وبلقيس من العراق بعد معاناة طويلة وخدمات جليلة وكبيرة قدماه لهذا البلد وشكلا معا ثنائيا رائعا وظاهره ثقافية وادبية قله نظيرها في العراق الحديث ورغم كل هذا الالم ضل حنينهم وحبهم للعراق أكبر من أي شيء وهذا ما شعرت عند زيارتي لهم في دارهم في لندن حيث كان كل كلامهم عن العراق وكيف يجب ان يكون مستقبلا وكيف يجب ان يتعلم ابنائه ان لهم حقوق يجب ان لا يتنازلوا عنها تحت أي ظرف.
يحز في نفسي أن اعرف ان واحد من المع مهندسي العراق مات وهو لا يتمتع بعضوية نقابة المهندسين العراقية لان النقابة قامت بفصله خضوعا للسلطة وحاولوا بعدها اعادة عضويته ايضا خضوعا للسلطة وهو ما لم يرضها رفعة للنقابة كما فهمت، وطالبهم بان تكون النقابة مستقله اولا كي تحفظ كرامة منتسبيها فطوال فترة تعرضه للظلم لم تتحرك النقابة ابد وبأي شكل من الاشكال للدفاع عنه بل على العكس ربما.
ارى ان على جميع المعماريين ان يطلعوا على هذا الكتاب ليشكل لهم درسا في الحياة وايضا درسا في كيفية ان تكون معماري حر وصادق ومحترم لمهنته كما كان رفعة الجادرجي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه المجلة