تمر في العاشر من نيسان الذكرى الاولى لرحيل “رفعة كامل الجادرجي” (1926 -2020)، المعمار العراقي المعروف، ورائد العمارة العربية الحداثية واحد اهم مبدعيها المميزين. لقد كتب الكثير في حق هذا المعمار الحداثي، كما تناول كثر من المهتمين عمارته واوضحوا اهمية ما اجترح رفعة الجادرجي من مقاربة معمارية لعبت دورا مهما في تكريس الحداثة المعمارية وقيمها ان كان ذلك في المشهد المعماري المحلي ام الاقليمي. ولدي ثقة بان كثرا سوف يتناولوا سيرته المهنية في المستقبل ويقيمّوا بموضوعيه دوره الريادي والتجديدي. لكني سأتحدث في هذه المناسبة عن علاقتي الشخصية برفعة من خلال صحبة سنين عديدة مع ذلك الصديق المثقف والمتنور الذي تعلمت منه الكثير.
اعرف رفعة الجادرجي منذ زمن طويل، وبالطبع فاني سمعت عنه بوقت أبكر، فهو المعمار العراقي الرائد، كما هو ابن “كامل الجادرجي”: الشخصية الوطنية المعروفة على نطاق واسع بالعراق، والذي يضيف الى اسمه، بالنسبة اليّ على وجه الخصوص، القاً مضافاً وشهرة زائدة. كنت أقدر عاليا منتجه المعماري المهني، وكنت على اطلاع بما كان ينشره من اراء وتقييمات للأفكار وللعمارة ولاسيما في الصحف اللبنانية. لكني لم التق به حينما انهيت دراستي الأولية في الخارج (في موسكو)، وعدت الى الوطن في منتصف الستينات، التقيت به بعد ذلك عندما انهيت دراستي العليا وتعينت بعد ذلك في كلية الهندسة استاذا في القسم المعماري بمنتصف السبعينات. حاولت في تلك الفترة المبكرة من اهتماماتي البحثية حول العمارة العراقية الحديثة ان اقابل العديد من معماريي تلك الفترة. ومن ضمن الذين التقيت بهم المعمار الرائد “حازم نامق” (1910 – 1990)، واذكر باني صورته في بيته ببارك السعدون، رغم انه كان لا يرغب بالتصوير، وكذلك المعمار الرائد “جعفر علاوي” (1915 -2005)، الذي أمسي صديقا عزيزا لي، أزوره باستمرار في دارته بالمنصور، كما قابلت الكثير من المعماريين الآخرين، بضمنهم بالطبع “رفعة الجادرجي”. لقد قابلته، مرة، في بيته بشارع طه في بداية الثمانينات (بعد خروجه من سجن ابي غريب، الذي كان معتقلا فيه لسنين بدوافع كيدية). ما لفت نظري، وقتها، في مسكنه: المكتبة “الهائلة” التي شغلت عدة جدران في الطابق الاعلى النصفي “الميزنين” Mezzanine من بيته الذي صممه ونفذة ضمن حديقة بيت والده “كامل الجادرجي” والمصمم من قبل “بدري قدح”: المعمار السوري الذي عمل في بغداد ابان الثلاثينات.
تحدثنا، وقتها، كثيرا: عن العمارة ونظرياتها وكذلك عن روادها الاجانب. ورأيت فيه انساناً مثقفا ومطلعا بعمق وشمولية عما كان يدور في الورشة المعمارية العالمية التي لم يكن كثر مهتمين بها وفي متابعتها. وكانت آرائه التي يطرحها بصراحة وجرأة نادرتين، تلاقي لدى صدىً حسنا، انا المغرم بالحداثة ونماذجها التصميمية، ونظرياتها، هي التي كنت ادرّسها في قسمنا المعماري. واذكر بان لقائي معه وقتها كان بسبب ترشيحي من قبله لأحدى فعاليات “مؤسسة الاغا خان”. وعندما استفسر مني عن اسمي ولقبي في جواز سفري لإيصالها الى المؤسسة بالخارج، اعترض على لقبي “السلطاني”، قائلا يتعين تغييره الى “سلطاني” فقط من دون “ألف” و”لام” (بالمناسبة هو يكتب اسمه خصوصا بالإنكليزية <جادرجي>)، مبررا ذلك، بالتخفيف من نطق الكلمة اولاً، ومنح الالقاب نوعا من التنوع والاختلاف ثانياً، والا سيكون مبتدأ جميع القاب العراقيين متماثلاً، يبدأ بـحرف الـ (A). ولاحقا عندما سألني صديقي المعمار “ياسر حكمت عبد المجيد”، كيف مرّ اللقاء مع رفعة، اجبته مازحا، باني دخلت الى بيته باسم “خالد السلطاني” وخرجت منه “خالد سلطاني”!
حينما سافر رفعة للدراسة خارج البلاد، بقيت اتقصى اخباره بين فترة واخرى من اخيه الصديق “نصير الجادرجي”. وفي الاردن التي انتقلت اليها في منتصف التسعينات، كنت اقابله عندما يكون في العاصمة الاردنية واحضر نشاطه المهني والثقافي فيها، وكان الشأن المعماري هاجسنا ومركز اهتمامنا المشترك. كان رفعة غزير في الكتابة والنشر، وقد أصدر عدة كتب تناول بعضها سيرته المهنية ونظرته وآرائه في العمارة، وكذلك كتب تناولت في نصوصها موضوعات غير معمارية مثل التصوير الفوتوغرافي، والموضوعات الإنثروبولوجية وغيرها. وارى ان كتابه “الاخيضر والقصر البلوري” (المنشور في 1991)، أحد اهم الكتب المعمارية الصادرة في العربية، لجهة تعاطيه مع موضوعات متنوعة ورصد احداث معمارية بشكل جريء وباجتهاد وتوضيح جوانب كثيرة خاصة بالمهنة المعمارية في بلده العراق بدءًا من ظهور تلك المهنة ونشاط مهندسيها ومعماريها وحتى “اسطواتها” الى سرد موثق وغزير (بلغ عدد صفحات الكتاب 552 صفحة من القطع الكبير) لمقاربته المعمارية وفلسفته التصميمة. ومع الاسف الشديد لم يحظ الكتاب بالاهتمام الذي يستحقه. والكثير من المعماريين العرب، عندما كنت استفسر منهم عنه، لم يسمعوا به ولم يطلعوا على محتوياته. بل وان الكتاب غير معروف تماما حتى في بلده العراق ايضا. واعزو ذلك الى ان تاريخ نشره وتوزيعه تزامن مع سطوة حكم النظام الديكتاتوري وهيمنة سلطته الاستبدادية المطلقة على كل مناحي الحياة بالعراق، وبالتالي فقد “أُبعد” الكتاب من العرض، ولم يجرؤ أحد في بيعه بالمكتبات.
عندما استقريت في كوبنهاغن ببدء الالفية، كان رفعة يسكن في لندن وتحديدا في ضاحية “كينغستون” Kingston. كنا على تواصل بالهاتف على نحو دائم. كان يعلق احيانا على ما انشره فيما يخص الشأن المعماري، واتابع معه اخبار صدور كتبه التي يرسلها لي موقعة بتوقيعه. كان الحديث معه يثريني ويزيد من معارفي تجاه هذه المهنة الجميلة: العمارة. ومرة علق على مقالي الذي احتفيت بـ “ثمانيته” سنة 2006، والذي عنونته “الحداثة اولاً.. الحداثة دائما”، من انه فعلا مؤمن ايمانا عميقا بقيم الحداثة وتوقها نحو التجديد والابداع. ولهذا فقد فهم “التراث” بصورة مغايرة لما كان شائعاً، بعيداً عن تلك الطروحات التي تسعى وراء تمجيد الماضي وتغلق ابواب الابداع والتأويل. لقد رأى رفعة، كما كرر ذلك في الكثير من مؤلفاته سواء في كتاب “في سببية وجدلية العمارة” (2006) ام في كتاب “دور المعمار في حضارة الانسان” (2014)، بان مثل ذلك الفهم لا يمكنه ان يؤدي الى آفاق مستقبلية، تلك الآفاق التي يرى فيها رفعة كمعمار حداثي، أهمية المجترح المعماري وقيمته الحضرية والتنويرية. اثناء نقاشاتنا كان دوما يميل لتكريس هذا النهج الطليعي، ويرى فيه فائدة كبيرة للناس وللعمارة. وهو لا يهاب القول، بالمناسبة، بانه بالضد من مقاربة “حسن فتحي” في تعاطيه مع مفهوم “المحلية” وفي ادراكه بتوظيف الموروث البنائي. كان دائما يكرر بانه يقف بالند مع المعماريين الغربيين. وهو لا يخشى انتقادهم كما لا يتقبل رؤاهم باننا علينا ان نظل في منطقتنا “نجتر” الماضي واساليبه، وهم يتمتعون لوحدهم بمكاسب الحضارة والتقدم التكنولوجي. وكانت رؤاه هذه مصدر عون لي، نقدياً، في فرز وتفريق كثير من التوجهات الاسلوبية التي كان المشهد المعماري حافلا بها.
في تموز 2009، مرّ رفعة على كوبنهاغن في طريقه بسفرة سياحية مع آخرين الى النرويج. وبالطبع التقينا عدة مرات قبل مواصلة رحلته الى النرويج وبعدها ايضاً. كانت اوقات صحبته مثمرة وممتعة معاً، وانا احاول ان اريه “مدينتي” وأسعى الى تعريفها وتقديمها له ولزوجته الست بلقيس شرارة. مشينا كثيرا في شوارع كوبنهاغن وتحدثنا كثيرا، وزرنا معالمها. وقدمت له كتابي “مئة عام من عمارة الحداثة” الذي صدر توا في 2009. وابدى ارتياحه لهذا الاصدار. بعد ذلك التقينا بخريف سنة 2010 في بروكسل /بلجيكا اثناء مشاركتنا معا لفعالية ثقافية. وقد سألني بعد ان الانتهاء منها، ما هو برنامجكما (وكنت بصحبة زوجتي) في المدينة؟ قلت له لدي قائمة بمواقع تصاميم المعمار البلجيكي “الآرتنوفوي” Art Nouveau الشهير “فكتور هورتا” (1861 – 1947) V. Horta واود ان اشاهدها موقعيا بعد ان كررت خصائص عمارتها مرارا على مسامع طلابي في بغداد اثناء تدريسي لهم مادة نظرية العمارة. قال سريعا وانا ذاهب معكما. ورغم ان الطقس لم يكن مشجعا في حينها، فقد رأيت رفعة وعليه معالم السرور والبهجة ونحن نقف كل مرة في حي من احياء بروكسل العديدة، امام تلك الامثلة الرائدة التي غيرت وجه العمارة وفتحت الابواب مشرعة لظهور التبدلات الجذرية التي شهدتها العمارة في سنين اوائل القرن العشرين.
في بغداد بعد ان ساهمت معه، في تحكيم مسابقة معمارية لمبنى مجلس الوزراء، في منتصف كانون الاول من عام 2010، رايت رفعة “المهني”، وهو يتحدث عن انطباعاته وآرائه في التصميم المعروضة. كانت فعلا دروسا مفيدة وممتعة وانا اصغي الى واحد من اهم المعماريين العرب الحداثيين. وقد حاولت ان اصوره كثيرا وهو في حالات وامكنة بغدادية متنوعة وعديدة. اعرف سلفا ستكون تلك اللقطات ذات اهمية خاصة لي ولمهام توثيق العمارة العراقية. بعد ذلك توالت لقائتنا في لندن في “كينغستون” تحديدا. وعندما اصدرت كتابا عنه “رفعة الجادرجي: معمار” سنة 2016 بمناسبة تسعينيته، شعرت باني اوفيت “ديني” تجاه هذا المعمار الطليعي، والصديق العزيز، الذي اراه في بعض الحالات قد سبق زمانه، بما اجترحه من عمارة، وما سجله من افكار، وما نادي به من قيم ورؤى!
معروف ان رفعة يهوي التصوير الفوتوغرافي. وله ذخيرة مميزة ومهمة في هذا المجال، وهي الان محفوظة في امكنة امينه. وكان دوما يردد على مسامعي بانه يعرف جيدا من ان مبانيه التي صممها ذات يوم، سوف تتعرض للتغيير والتشويه والتخريب وحتى الى الهدم والزوال. ولهذا فهو يسعى دوما الى توثيقها وتسجيلها فوتوغرافيا، وهو ما قام به خلال سنين عديدة من اعمل تصويريه رائعة لم تقتصر على اعماله فقط، وانما شملت شواهد البيئة المبنية المحلية، هي التي لم يقم أحد غيره في تسجيلها وتوثيقها بمثل تلك البراعة والمهنية والتنوع والكفاءة التي اضطلع رفعة بها. ومع هذا (.. وربما بالرغم من هذا) تبقى عمارته وشواهد ابنيته الكثيرة باقية، تشير، بصورة لا تخطئ الى معمارها القدير، مضفيةً بوجودها قيمة جمالية كبيرة ومميزة الى بيئتنا المبنية.
مرة قال شاعر من القرن الثالث عشر: “تلك آثارنا تدل علينا، فانظروا بعدنا الى الآثار!”
يبقى “رفعة الجادرجي” حاضرا دوما في ذاكرة وقلوب محبيه واصدقائه الكثر، مثلما تظل شواهد مبانيه العديدة تستدعي الى الاذهان اسم وذكرى معمارها!
له الذكر العطر.. والطيب!
لقراءة بقية مقالات العدد الخاص بالذكرى السنوية الاولى رحيل رفعة الجادرجي