من المناسب عند الحديث عن قامة معمارية عراقية كبيرة كالراحل الاستاذ رفعة الجادرجي ان استعرض منجزه الفكري والمعماري وان اذكر علاقتي الشخصية به و التي تطورت خارج تجربة عمل مشترك لكنها جاءت نتيجة للتواصل المهني الذي بدأ في العام 1971 ، وتاثيرها على قرارات تختص بمسيرتي المعمارية في مغادرتي العراق بترشيح منه في العام 1972 واختيار الجامعة و موضوع التخصص في الدراسة العليا في العام 1992 ، واستمرت في التسعينيات من القرن الماضي لقاءاتنا بدارته في منطقة حالات بيروت وكنغيستون على التيمس في لندن وزياراتي له خلال مرضه.
عندما نتحدث عن العمارة والثقافة والفن في العراق فاننا نقف باجلال امام المنجز المعماري والفكري في البحث والتعاطي مع مفردات العمارة المحلية والحداثة وتكريس الخصوصية المحلية في المنجز المعماري للراحلين الدكتور محمد مكية والاستاذ رفعة الجادرجي. فانهما لم يكونا معماريين وحسب بل كان لهما دورمع اخرين من الاساتذة المعماريين الرواد في الثقافة والفن العراقيين ومساهمة فعالة بنهضة العراق الثقافية والفنية في الخمسينات واوائل الستينات و من جيل يصعب تكرارولادته في ظروف العراق السابقة التي طبعها العنف والقمع الفكري والسياسي بمراحل الانقلابات المختلفة التي كان المتغيرالسياسي والثقافي وعدم الاستقرار المجتمعي صفتها الاساسية حيث يجد المهتم بالعمارة والثقافة والفن ان الزمن ليس زمنه والمكان ليس مكانه وان الفجوة اتسعت وتتسع كل يوم الى حد الاغتراب بينها وبين حاضر بغداد الثقافي والعمراني والمجتمعي التي تشهد تدهورا وتخريبا لم يتوقف.
في الوقت الذي اكد الراحلان على ان العمارة مسؤولية اخلاقية واجتماعية فقد اسس كل منهما مدرسته الفكرية المبنية على الفهم الواعي للتراث والمعاصرة وان اختلفا في التعبيرعنها برؤى حديثة وافكار مؤسسة لعمارة لم تغفل خصوصيات العراق وتراكماته المعمارية في تفاعلها مع بوتقة الحداثة لتتجاوزعمارة المبنى في مقاربة تؤكد على اهمية اقترانها بتخطيط المحيط العمراني والبحث عن خصوصية المكان والتعاطي مع المفردات التكوينية المستقاة من رموز العمارة المحلية والاقليمية وتقنيات العمارة الحديثة والتزاوج بينهما في منجز الدكتور مكية وتعاطي الاستاذ الجادرجي مع صهر العناصر المعمارية المحلية في بوتقة الحداثة بعد تجريدها من الاصل بشكل اختزالي يقترب من المعالجات الحداثية بواجهات عمارته التشكيلية .
انجز الراحل الاستاذ الجادرجي الكثير من المعالم المعمارية في بغداد والموصل والكويت في القترة من الستينات الى اوائل الثمانينات التي اصبحت تشكل نمطا دالا على منجزه المعماري والذي اصبح نمطا حضاريا متميزا بفتحات المباني المقنطرة المتباينة في مقاييسها ظهرت كلوحات تشكيلية غاية في الدقة واالغرابة احيانا لمن يحاول فهم مدلولها العماري تكرر في المباني الرسمية والسكنية والخدمية.
لقد تعامل الاستاذ الجادرجي مع مواد البناء المحلية ” الطابوق” بعمارته بعناية ومنحى فكري تمخضت عنه منجزات معمارية تميزت بالسعي الدائم للتفرد وتكريس الخصوصية المحلية واقحامه في الحداثة التي تجسدت من خلال تاثره باعمال الفنان جواد سليم التي تمخضت في منجزهما المشترك في نصب الحرية الذي يعاني من الاهمال حاليا بعد ان اصبح رمزا لبغداد حاول من خلالها التعبيرعن الموروث المحلي في العمارة العراقية بصبغة حداثية في الهيئة ورمزية في الشكل.
قاد الجادرجي برنامج التطوير العمراني والحفاظ لمناطق بغداد التراثية عند تسلمه مسؤولية تحديث بغداد من خلال موقعه كمستشار لامين العاصمة في اوائل الثمانينيات بدعوة وتكليف عدد من المعماريين العالميين الكباركريتشارد انكلند وفنتوري وارثر اريكسون واوف اروب وبوفيل وكارل موتشلير وتاك وجون وارن ومكية بالمشاركة مع مكتبنا ” اركيسنتر” وغيرهم لتصميم مواقع بغداد التراثية في ساحة الخلاني وباب الشيخ وشارع الخلفاء ومنطقة جامع الخلفاء والكاظمية وابي نؤاس وساحة الميدان وشارع حيفا الذي يمثل المشروع الوحيد الذي تم تنفيذ المحور الرئيسي منه حسب المخطط التوجيهي الذي اعده واشرف على تنفيذ عمارته المعمار الاستاذ معاذ الالوسي بعكس المشاريع الاخرى التي لم ترى النور ولازالت دراساتها ومخرجاتها تقبع في اقبية امانة بغداد وبذلك فقدت بغداد فرصة ذهبية قلما تحدث في تاريخ المدن باعداد اهم الدراسات والتصاميم العمرانية التي شارك فيها اهم المعماريين الدوليين بتلك الفترة و التي لو كتب لها الاستمراية والحياة ,بالرغم من بعض الملاحظات على بعض منها, لشكلت حدثا عمرانيا بنوعية مهمة في المنهج التخطيطي وحجما كبيرا للمناطق التي شملتها خطة التطوير بعد عقود من الاهمال والتاخير في تحديث مخطط بغداد التنموي والمباشرة في التأسيس لقاعدة انطلاق مرحلة عمرانية لبغداد وتطورها الثقافي والحضاري.
نشط المعمار الاستاذ الجادرجي بعد مغادرته العراق في منتصف الثمانينيات في التنظير المعماري واغنى المكتبة العراقية والعربية من خلال منجزاته الفكرية والفنية والذي كان يهدف منها بيان موقفه من ظاهرة العمارة والتاكيد على الدور الاجتماعي للمعمار ومسؤوليته الاجتماعية والانسانية حيث شكل علاقة مضيئة في في الحياة الثقافية المعمارية العربية من خلال تاليفه كتبا عديدة عبر عنها في العديد من كتاباته بالكشف عن بنيوية العمارة خارج التشكيلات الهندسية وتحليل علاقة الانسان بالعمل وحاجاته السكولوجية والنفعية والجمالية وتاثير التطور الحضاري في التوازن بين الدوافع التقنية والرمزية والدوافع الجمالية وقد استعمل في كتاباته اسلوبا فلسفيا صعب الفهم احيانا وباللغة العربية بالرغم من موقفه المتشائم منها والتي كان يعتبرها لغة متعثرة*.
التقيت الاستاذ الراحل اول مرة بمكتبه بدعوة وجهها لي الصديق الاستاذ معاذ الالوسي في اوائل العام 1972 ليعرضا علي العمل بمكتبه الاستشاري العراقي بمشروع تطوير قلعة اربيل والذي لم يتم المباشرة به لتاخر التخصيصات المالية في الوقت الذي كان لدي عملي الخاص بمكتبي الصغير” مركز العماره” والذي كنت حريصا على استمراريته .و لم يمضي شهر على ذلك اللقاء قبل دعوتي ولمرة اخرى لاعلامي بترشيحي لمنصب قيادة فريق التصميم بالمكتب العربي للاستشارات الهندسية في الكويت المشارك مع الاستشاري العراقي في تصميم مشاريع متعددة و الذي كان الشركاء يبحثون من خلاله عن معمار عراقي مؤهل لهذا الدور في الوقت الذي كان لدي عملي المتواضع و لم اكن افكر بمغادرة العراق.
قبلت الترشيح والدعوة وصادف وان كنا على نفس الرحلة الى الكويت في 31 تشرين اول 1972 و العمل مع المكتب الذي استمر لمدة سنتين قبل تاسيس مكتبي هناك وبرغبة اصحاب المكتب باتباع نمط العمارة العراقية التي بدات تاخذ اهتماما كبيرا في الاوساط الثقافية والرسمية الكويتية كبديلا عن هيمنة نمط العمارة المصرية الكونكريتية والغريبة السائدة ” سيد كريم” في فترة الستينات . حاولت في مقاربتي التصميمية باول مشروعين كلفت بهما كان احدهما مقر لشركة مالية في الكويت والاخرمبنى تجاري وسكني متعدد الادوار في ابوظبي , ان اتبع مدرسة الجادرجي بتصرف باحاطة فتحات المبنى بكاسرات الشمس في معالجة الواجهات بفتحات متباينة بقياساتها و قمت بارسال احدى الاظهارات الخاصة بمشروع ابو ظبي اليه ولم يخفي اعجابه بها عند لقائي به في اول زيارة لي الى بغداد في تموز 1973 ومثلها باالتشكيل الحرفي لمنمنمات اباريق الفضة في منتج الصاغة الصايئة العراقية.
تميز الاستاذ الراحل بطبع ودي وودود وشغف بالثقافة والعمارة وسعة اطلاعه على مايصدر من الدوريات العالمية واهتمامه بالعمل المهني التنظيمي الدؤوب للتطوير المستمر لمنهجه ومفرداته . ففي اول زيارة له لمكتبنا اركيسنتر في لندن بادرني باول سؤال له برغبته بالاطلاع على المكتبة وطريقة تنظيمها وفهرسة مراجعها الفنية والاسلوب المتبع في انتاج المخططات والوثائق المعمارة لمشاريعنا والتي كنا نتبع فيها منظومة الفهرسة والموصفات الامريكية ( سي اس اي ) حيث ابدى اهتمامه بها باعتبرها القاعدة الاساسية المطلوبة في انتاج مخرجات اي مشروع لضمان نجاحه والذي كان السبب وراء اعتماده للعقد الاستشاري لتطوير منطقة جامع الخلفاء , احدى مشاريع تطوير بغداد في 1982 بعد معرفته بشراكة مكتبنا و كما ينص العقد مع مكتب د. مكية في الخدمات الاستشارية للمشروع حيث اخبرني برايه بشكل صريح وغير مجامل ” بان مكتب د. مكية لايمتلك الخبرة ومنظومة العمل لانتاج المخططات التفصيلية للمشاريع الجيدة التصميم التي كان يقوم بها “.
كانت لدي الاستاذ الجادرجي في فترة الثمانينيات وبعد استقراره في لندن رغبة كبيرة ومن خلال تطوير ما انجزه من اجراءات ونمط التصميم المعماري في مشاريع مكتب الاستشاري العراقي العديدة في العمل على تطوير برنامج و منظومة عمل رقمية جديدة لانتاج المخططات وفق المواصفات والسياقات البريطانية وعرض علي المباشرة بدراسة امكانية تطبيقها في مخرجات ووثائق مشروعنا الكبير “الديوان الاميري ومكتب ولي العهد ومجلس الوزراء في الكويت” عندما اخبرته بالتحديات التي تواجهنا في انتاج مخرجات حزمه التنفيذية المتعددة “25 حزمة” وفق برنامج تعجيل زمني طلبته منا وطبقته لاول مرة في المنطقة شركة ” تيرنر المريكية” التي كلفت بادارة التنفيذ من قبل وزارة الاشغال العامة . ابديت له تعذر تغييرمنظومة الانتاج الرقمي ال” الايزي كاد” الجديد التي باشرنا باستخدامه بعد تدريب الكادر بسبب مباشرتنا المبكرة به و لعدم توفر الوقت الذي كان يمثل التحدي الاكبر بسرعة العمل والانجاز.
لم يمضي وقت طويل على انجاز اخر حزمة عمل في المشروع ” الانهاءات الداخلية والتأثيث” في نهاية العام ومباشرتنا بمشاريع اخرى في العراق العام 1989 لنفاجأ في الثاني من اب 1990 بغزو الكويت وانهيار اعمالنا في البلدين والقرار بتوقف المكتب عن الاستمرار الامر الذي حفزني للتفكير بما ساقوم به والقرار باستعادة حلمي المؤجل في العودة الى مقاعد الدراسة لالجأ من جديد الى الاستاذ الجادرجي لاستشيره في اختيار الجامعة وموضوع البحث والتخصص . بعد حديث طويل عن الموقف وتجربة العمل مع الاستشاريين الاجانب الين نختارهم للعمل معنا او الموظفين العاملين في مكاتبنا . فوجئت بتشخيصه للاستشاري او الموظف الاجنبي بموقفه الثقافي العام بصعوبة القبول والرضى بوجودنا كا صحاب عمل ومدراء لهم ومحاولة التشكيك في مهاراتنا وقابلياتنا القيادية والانتقاص من تجربتنا وخبرتنا العلمية والفنية والمهنية . كنت اصغي الى مقاربته في تقييم الجامعات المختلفة في بريطانيا وامريكا وتفضيله لدراسة الماجستير في الجامعات البريطانية والبحوث والدكتوراه في الجامعات الامريكية والتوصية بالالتحاق بمدرسة البارتليت للعمارة في جامعة لندن كافضل كلية معمارية بريطانية ومن افضل الكليات العالمية ودراسة اقتصاد الانشاء والعمارة وادارتها كموضوع تخصص وهذا ماحصل حيث التحقت في العام 1993- 1994 وكنت الطالب الاكبر عمرا بين الطلبة الملتحقين من تخصصات هندسية مختلفة . كنت سعيد بالتحاقي بهذه المدرسة المعمارية العتيدة وبهذا التخصص الذي ادين به كما في قرار التحاقي بالعمل في الكويت لاستاذي الراحل والذي كان له تأثيرا كبيرا في مسيرتي المهنية والثقافية وعملي الاستشاري المعماري اللاحق واهتمامي الكبير في البحث والدراسة ومنهج سياقات العمل التخطيطي العمراني والتصميمي باختيار نوع المشاريع التي اقوم بها والتي عادة ما تميزت بالواقعية المهنية الاقتصادية والفنية القريبة من حاجة الانسان والمجتمع .
لقد ودعنا استاذنا الراحل الجادرجي في العام الماضي وقبله بسنين معلمنا د. محمد مكية والاساتذة الذين رحلو عنا ونحن ندين له ولهم بمنجز عمراني وارث ثقافي وفني وفكري عراقي وعربي متميز املين بان نكون قد حملنا واوصلنا رسالتهم الى جيل المعماريين الشباب كبذرة في فضاء اهتمامهم المهني والعلمي والثقافي عملهم املين بان يقوموا برعايتها علهم يجدوا فيها طريقا .يتلمسوا منه الحركة نحو مستقبل افضل وموقفا مسؤولا يساهم في الحفاظ على ماتبقى من ارثهم الحضاري والتجربة و الفكرالذي اورثه لنا اساتذتنا الكبار .
لقراءة بقية مقالات العدد الخاص بالذكرى السنوية الاولى رحيل رفعة الجادرجي