في الجزء الثالث من سلسلة: النجف، يناقش المعماري العراقي المقيم في باريس د. تراث جميل عمارة المنازل التقليدية في النجف
تحتوي منطقة وسط مدينة النجف القديمة على كنوز معمارية متنوعة. بالإضافة إلى ضريح الإمام علي، الذي يقع في قلب المدينة ويسيطر على المنطقة بشكل عام، تشكل المدارس والمنازل والمساجد والخانات الجميلة النسيج العمراني المحلي. تقع هذه المباني على طول الشوارع الضيقة المتعرجة في وسط المدينة، ولأن جميع مشاريع البناء في هذه المنطقة لها واجهات متراصة للغاية ومداخل بسيطة (عادة محلية لعدم إظهار أي علامات على الثراء)، فقد يكون من الصعب رؤيتها. وبالتالي، تكون المنطقة الغنية معماريًا مخفية خلف الواجهات البسيطة للشوارع، ويمكن اعتبارها إحدى السمات الرئيسية للمدينة.
الطريقة الوحيدة للتعرف على المباني الهامة في المدينة التي تعكس لغة العمارة المحلية بأفضل شكل هي الاطلاع على المباني المدرجة في مديرية الآثار في النجف، إلى جانب الأرشيفات التي توثق تلك البنايات التي دمرت أو اختفت. بدءًا من عام 1980، قامت السلطات المحلية بتدوين قائمة تضم حوالي 250 مبنى تم اعتبارها بارزة بقيمتها المعمارية والزخرفية. ومع ذلك، من دون وجود برنامج حماية أو حفظ مضبوط، انخفض عدد المباني المدرجة بشكل كبير إلى 38 في عام 2010. دمرت الحكومة المحلية بعض هذه المباني، في حين هدم أصحابها البعض الآخر في محاولة لبناء هياكل حديثة مكانها. في حين أن المباني ذات القيمة المعمارية معرضة لهذه الممارسات، فإن هناك أفراداً يعملون على الحفاظ على التراث المعماري للمنطقة عن طريق الحفاظ على المباني على نفقتهم الخاصة.
أحد المفاهيم الغريبة المطبقة في النجف هو أنه حتى لو أعيد بناء أو تأهيل مبنى، فإنه يحتفظ بمكانته كميراث معماري، حتى لو لم يتبع المشروع لوائح الترميم. ولذلك، يمكن لزوار المنطقة أن يشاهدوا مسجدًا أو مدرسة حديثة البناء تتميز بمواد وتصميمات حديثة، ولكن لا يزال لها مكانتها وتصنيفها. لهذا السبب، يمكن استنتاج أن عملية الإدراج موجهة أكثر إلى الاسم والتراث التاريخي أو الروحي بدلاً من المبنى نفسه.
غالبية المباني في وسط مدينة النجف هي سكنية. في عام 1986، كانت وحدات الإسكان تغطي ما يقرب من 76% من المدينة، وتتألف من 4250 منزلاً موزعة على الأحياء الأربعة الرئيسية في المدينة. وبحلول عام 2016، غطت الوحدات السكنية 39% بواقع 1295 بيتاً. يرجع ذلك إلى ظاهرة الهجرة التي بدأت في بداية القرن العشرين، والتي دفعت السكان المحليين للانتقال خارج منطقة وسط المدينة، حيث تم بناء أحياء جديدة وتجهيزها بالخدمات والشوارع الواسعة، مما يسمح باستخدام المركبات.
اليوم، يوجد أقل من 10 بيوت مدرجة ما زالت قيد الاستخدام وقد تم إدراجها في عقد الثمانينات؛ العديد من المنازل المدرجة صارت الآن إما في حالة خراب أو غير صالحة للسكن. بعد زيارة عدد قليل من هذه المباني، شاهدنا التراث المعماري العظيم الذي كانت تتمتع به النجف في الماضي، والذي يمكن استعادته إذا كانت الإرادة موجودة.
أول مظهر للوحدة السكنية التقليدية في النجف هو بساطة ارتفاعها . تجدر الإشارة إلى أنه في النسيج الحضري التقليدي للمدينة، تتألف معظم البيوت من طابق واحد فقط، واثنين إذا كانت في زاوية. هذا الارتفاع بسيط وي تكون من باب خشبي بدون نافذة في الطابق الأرضي. وعموماً، تتألف المنازل من طابق أو طابقين فوق الأرض، وعلى الأقل طابق واحد تحت الأرض. ومع ذلك، فمن النادر جدًا العثور على بيت ثلاثي الطوابق، ولكن من الشائع جدًا وجود عدة طوابق تحت الأرض يسمى محلياً بـ “سرداب”. يستخدم السكان هذه الطوابق والأدوار للحصول على بيئة أكثر برودة في فصل الصيف الحار. ويحتوي السرداب على نفق واحد، على الأقل تكون للاستخدام الثانوي. عبر التاريخ، تم ربط سراديب النجف عبر الأنفاق ، مما أدى إلى إنشاء شبكة اتصالات مخفية، مما سمح للسكان بإلاختباء أو مهاجمة الغزاة أو السلطات.
تتكون المستويات الموجودة فوق سطح الأرض من عدة غرف تتشكل حول فناء مستطيل أو مربع يسمى محليًا بـ الحوش. مدخل هذا الفناء من الشارع على شكل حرف L يمنع الإطلالات المباشرة على البيت.
الفناء متعدد الاستخدامات، كغيره من المساحات في بيوت النجف التقليدية. يستخدم بشكل رئيسي كمحور مركزي متصل بجميع المناطق الأخرى بما في ذلك الدرج، بالإضافة إلى كونه مساحة تسمح بتدفق الهواء داخل الغرف، مما يقلل من حرارة المنزل وإدارة مناخه.
بشكل عام، تنقسم البيوت إلى قسمين: قسم خاص للاستخدام العائلي، وقسم عام لاستخدام الضيف. في المباني الأكثر تطورًا، يوجد فناءان أيضًا يتبعان نفس المبادئ (أي أحدهما عام والآخر خاص). تعتبر غرف هذه الأقسام عمومًا متعددة الاستخدامات، وتُستخدم للتجمع وتناول الطعام والنوم. في بعض البيوت، توجد غرفة تقع في المستوى المتوسط تسمى الأورسي ، بينما في البعض الآخر، توجد غرفة في الطابق العلوي تطل على الفناء عبر نوافذ خشبية مغطاة ، تسمى الشناشيل. إذا كانت الغرفة العلوية مبنية فوق الفناء، فإنها تدعم بعمودين خشبيين يسميان الدلك.
بيوت النجف عادة ما تكون وحدة وظيفية مبنية من الطابوق وأحياناً مغطاة بالجبس. وتكون بعض المنازل متطورة جدًا ومزينة بشكل جميل لتعكس المكانة الاجتماعية والاقتصادية لأصحابها. تعود ملكية هذه البيوت إلى الزعماء الدينيين والتجار البارزين ورؤساء المناطق المحلية. أحد العناصر المشتركة بين جميع المنازل، بغض النظر عن مكانة ساكنيها، هو أنها مزينة من الداخل دون أي إشارة إلى ثروتهم من الخارج.
جميع هذه العناصر تم تطويرها في البيت النجفي التقليدي لتلبية الغرض الاجتماعي وإظهار بيئة خاصة، بالإضافة إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للعائلة. ومع ذلك، تختفي البيوت التقليدية في النجف اليوم بسبب البيئة الاجتماعية المتغيرة وأنماط حياة السكان المحليين، مما أدى إلى استخدام تكتيك شائع يتمثل في إهمال المنازل عمدًا، مما يجعلها تسقط في حالة خراب وتستخدم أراضيها لاحقًا لفنادق حديثة أو مبانٍ تجارية.
من الواضح أن تطوير المدينة أمر حتمي وضروري، ومع ذلك، يمكن القيام بذلك مع مراعاة الطابع المعماري للمدينة التاريخية والحفاظ عليه . ف على سبيل المثال، تم ترميم أحد البيوت مؤخرًا عن طريق إعادة بناء غالبية المبنى ليتطابق تمامًا مع شكله الأصلي وتحويله إلى متحف. بدأت مثل هذه المبادرات المحلية تلقى صدىً لدى السلطات المحلية وأدت إلى صنع السياسات المتعلقة بالحفاظ على هذه المباني – وهي علامة بارزة في الاحتفال بفن العمارة في النجف. ونتيجة لذلك، تم إطلاق مشاريع جديدة مؤخرًا لحماية ما يمكن إنقاذه في المدينة، كل هذا ضمن إطار ومعايير الحفظ المناسب.