في الجزء الخامس من سلسلة: النجف، يفحص المعماري العراقي الدكتور تراث جميل المساحات التعليمية في المدينة
من السمات الرئيسية للنجف، إلى جانب ضريح الإمام علي هي مدارسها الدينية . تكمن أهمية المدينة في علاقتها الدينية بالإسلام الشيعي، كما أن مساحاتها التعليمية تعزز هذا الارتباط من خلال تعليم المذهب الشيعي. كما أنها تعكس التراث المعماري الطويل للمدينة الذي تم بناؤه على مر القرون. في هذا المقال، سنستكشف الهندسة المعمارية لهذه المدارس وأهميتها داخل المدينة بالتوازي مع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والدينية.
اكتسب التدريس في النجف شهرة عندما هاجر إليها العالم الفارسي الشهير نصير الدين الطوسي من بغداد في منتصف القرن الحادي عشر. بينما يعتقد المؤرخون أن هناك استمرارية لتدريس الدراسات الإسلامية منذ زمن الإمام علي في الكوفة (وما تلاه من انتقال لهذا إلى النجف)، في الواقع، لا يوجد أي دليل على وجود مدارس بالمعنى الحديث في النجف قبل وصول الطوسي. بالإضافة إلى ذلك، في ذلك الوقت، كانت البصرة وبغداد أكبر مراكز تعليمية جذبت الطلاب، وكانت المدينتان تتشاركان في الهيمنة الإقليمية في هذا المجال. بعد وصول الطوسي إلى النجف، عمل على إنشاء مدرسته الخاصة، ووضع منهجية دراسية اتبعها طلابه فيما بعد، وهي المدرسة التي تعرف باسم الحوزة، و تشبه الأزهر في مصر. أسس الطوسي الحوزة مع طلابه، الذين بلغ عددهم حوالي 300 في ذلك الوقت، ولكن اليوم، لا يعرف سوى 30 شخصًا بالاسم.
منذ إنشاء مدرسته، بقيت النجف مركزًا للدراسة، حتى أثناء انتقال الحوزة إلى مدن أخرى، ويتجلى ذلك في الارتفاع التدريجي لعدد الطلاب وتزايد عدد المدارس منذ أول ترخيص مسجل للتدريس في القرن الحادي عشر. في عام 1908، كان هناك أكثر من 22 مدرسة دينية تدرّس قرابة 5000 إلى 6000 طالب، تمت رعاية دراستهم، بالإضافة إلى تكاليف إقامتهم ومعيشتهم. الآن، يوجد حوالي 15000 طالب و15 مدرسة تاريخية في جميع أنحاء النجف، دون احتساب المدارس الحديثة التي تم بناؤها مؤخرًا.
تم دمج جميع هذه المدارس في النسيج الحضري للمدينة. في بعضها، يمكننا تمييز المدخل بزخارفه أو شكل إيواناته، والتي عادة ما تستوحى من أبواب الضريح في قلب المدينة. وتتعلق أهمية المدرسة ببعدها عن الضريح والتشابه في زخرفته. وقد تم إنشاء معظم المدارس وتمويلها إما من قبل شيخ ديني أو متبرع (يتم تسمية المدرسة باسمه أيضًا). يقوم كل شيخ بالتدريس في مدرسته وعادةً ما يستمر أحد طلابه على نهجه بعد وفاته.
تعود البنية التحتية للمدارس الموجودة حاليا إلى منتصف القرن التاسع عشر، على الرغم من وجودها في النجف منذ القرن الحادي عشر أو الثاني عشر. بشكل عام، تتكون هذه المدارس من عده ، طابق واحد على الأقل فوق الأرض وآخر تحت الأرض (يشبه إلى حد كبير منازل النجف). بعض المدارس لها ثلاثة أو أربعة طوابق تحت الأرض، يستخدمها الطلاب خاصة خلال فصل الصيف كمساحات دراسية غير رسمية شكلت دوائر دينية. و تتميز كل مدرسة بوجود وظائف مشتركة تبدأ من مكتبة وغرف تدريس ومساحات مشتركة وسكنات طلابية.
مدارس النجف لها قصصها الخاصة وخصائصها المعمارية، ولكن تقريبًا جميعها تشترك في نفس العناصر المعمارية. وأهم المدارس من الناحية التاريخية هي المدرسة الغَرويَّة التي تقع داخل مجمع الضريح. ويعود شكلها الفعلي إلى بناء الضريح في القرن السابع عشر، ويمكن الوصول إلى مدخلها عبر فناء الضريح. و تتكون المدرسة الغَرويَّة من ثلاثة طوابق أعيد بناؤها بالكامل خلال مشروع ترميم المجمع بين عامي 2006 و 2010.
تبعد مدرسة الهندي قليلاً عن الضريح، وقد تحولت مؤخرًا إلى مدرسة الإمام باقر. أسسها علي خان اللاهوري عام 1910 وتتكون من طابق واحد على شكل مربع. في الوسط فناء محاط بـ 22 غرفة، 19 منها غرف نوم للطلاب. في الزوايا الأربع، تؤدي السلالم إلى الطوابق الثلاثة تحت الأرض، هذه الطوابق الآن في حالة سيئة وغير صالحة للاستخدام. الزخرفة في المدرسة بسيطة جدا؛ يكاد لا يذكر إلا المقرنصات التي تزين الزوايا الأربع.
من أكثر المدارس تميزاً في النجف مدرسة اليزدي. و كان من المقرر هدم هذه المدرسة في منتصف القرن العشرين لإفساح المجال لطريق جديد، لكن الشيخ كاشف الغطاء حمى المبنى وأثرت جهوده في تغيير مسار الطريق. وقد تأسست المدرسة عام 1904 من قبل محمد كاظم اليزدي وبتمويل من الوزير أستقالي البخاري. و تعكس هندستها المعمارية العناصر المحلية ويمكن اعتبارها المثال الوحيد اليوم الذي لم يطرأ الكثير من التعديلات على هندستها المعمارية أو زخرفتها. المدرسة، مثل غيرها، مبنية على طابقين حول فناء مربع. هذا الفناء محاط بإيوانات من جميع الجهات، وخلف كل إيوان توجد غرفة نوم لطالبين. تتميز بعض الإيوانات بواجهات خشبية مغلقة مزخرفة، في حين أن البعض الآخر في الطابق العلوي يضم مقرنصات. تم تزيين باقي جدران الإيوان بالكامل بخزف ملون يُدعى محليًا باسم القاشاني، والذي يشبه إلى حد كبير خزف الضريح. في مكان آخر من المدرسة، بالقرب من المدخل، يوجد فناء صغير آخر مزين بالطوب والشناشيل الخشبي على الطراز الحديث. تحتوي المدرسة على أربعة أقبية تحت الأرض في مستوى واحد، وقد تم إعادة تأهيلها كمكتبات وفصول دراسية.
تميل المدارس الحديثة في النجف إلى البناء بالخرسانة بدلاً من الطوب، ولكن في جميع الحالات، يتم الحفاظ على زخارفها ذات الخزف الملون كتقليد، مما يظهر ميولها الدينية إلى جانب علاقتها بالضريح. ومنذ عام 2003، بدأت النجف تكون مركزًا لتعليم المذهب الشيعي، بالتزامن مع دورها المحدد كوجهة للسياحة الدينية للمسلمين في جميع أنحاء العالم.