في هذه السلسلة التي تقدمها المدينة المدورة، يستكشف المعماري العراقي المقيم في باريس الدكتور تراث جميل العمارة والتاريخ لإحدى آخر مدن العراق المحفوظة: النجف.
تقع مدينة النجف في جنوب العراق، على بعد حوالي 160 كيلومترًا جنوب بغداد. وهي عاصمة محافظة النجف. جغرافياً، تقع المدينة على حافة هضبة مرتفعة بارتفاع 70 مترًا عن مستوى سطح البحر، بين الصحراء غرباً ووادي نهر الفرات شرقاً. وقد تشكلت بحيرة كبيرة تسمى بحر النجف، أو “بحيرة النجف” أسفل هذه الهضبة إلى الغرب.
ظهرت النجف كبلدة صغيرة تحيط بضريح الخليفة الإمام علي. ولا توجد معلومات واضحة حول فترة التأسيس في المصادر التاريخية، ولكن يمكن تقدير أن أولى المستوطنات تم تطويرها بين عامي 791 و 895 للميلاد . وبعد وصول الخليفة هارون الرشيد عام 786، أصبح القبر ضريحًا، ومنذ ذلك الحين وهو قلب المدينة.
لفهم النجف بشكل أفضل، علينا أن نلقي نظرة على محيطها. ف قبل تأسيس النجف، كانت المنطقة تحت سيطرة الكوفة، عاصمة العالم الإسلامي خلال عهد الخليفة علي، وتأسست عام 638 من قبل قائد الجيش الإسلامي سعد بن أبي وقاص بعد السيطرة على العراق من الإمبراطورية الفارسية. و تقع الكوفة على بعد حوالي 10 كيلومترات شرقي النجف، على فرع من نهر الفرات. وقد كانت الكوفة في ذروة مجدها عاصمة اللغة والثقافة، وحاضرة لمختف السكان. تقع الكوفة على بعد حوالي خمسة كيلومترات شمال شرق مدينة الحيرة. وتأسست النجف، والكوفة، والحيرة في أوقات مختلفة في منطقة واحدة، وشكلت معًا مثلثًا يعرف محليًا باسم “المثلث الثقافي”.
الحيرة
كانت الحيرة عاصمة دولة اللخميين، وأسسها الملك العربي عمرو بن عدي في القرن الثالث. كانت المدينة مزيجًا من الثقافات والفنون والأديان المختلفة، يحكمها ملك محاط بالعديد من المستشارين من مختلف الأصول والأديان، من بينها المسيحية. و في القرن السادس، اعتنق أشهر ملوك الأسرة الحاكمة ال نعمان بن المنذر المسيحية، مما أدى إلى تحول المدينة إلى عاصمة للكنائس والأديرة. و تشير المصادر العربية إلى أكثر من 50 ديرًا وكنيسة تكمّل ملامح المدينة.
وليس لدينا رؤية واضحة لشكل وحجم الحيرة، ولكن الآثار التي تم العثور عليها في تلك المنطقة تصوّرها مدينة مفتوحة بدون أي جدران حماية ومتشعبة عبر مساحة واسعة جدًا.
أما من الناحية المعمارية، فقد اشتهرت المدينة بكونها موطنًا للعديد من القصور المشيدة جيدًا. و على الرغم من ندرة أوصاف تلك الأماكن، إلا أنها أصبحت من خلال الشعر العربي انعكاسًا للجمال والكمال. وأشهر هذه القصور هي الخورنق والسدير.
كما زودتنا الحفريات المتعددة ببعض المعلومات عن كنيستين مبنيتين على طراز معماري شرقي.
وقد كان للحيرة قانون اقتصادي وسياسي مهم للغاية. ف من الناحية السياسية، لعبت المدينة دورًا دبلوماسيًا بين الإمبراطورية الفارسية وبقية شبه الجزيرة العربية. و حكمت سلالة اللخميين بالتعاون مع الإمبراطورية الفارسية وكوكيل عنها، وعملت كمنطقة عازلة لشبه الجزيرة بتأثير امتد من الحيرة إلى البحرين واليمن.
وقد أدى ظهور الإسلام في القرن السابع إلى تعديلات عميقة في التنظيم في شبه الجزيرة. و أصبح العرب قوة مدفوعة بغايتها في نشر رسالتهم الجديدة، وهذا تزامن مع ضعف الإمبراطورية الفارسية وإزالة سلالة اللخميين بقسوة من الحيرة. ولم يَطُل الأمر كثيرًا، حتى وصل الوافدون الجدد إلى العراق وأسسوا الكوفة، التي تقع على بعد كيلومترات قليلة من الحيرة. و استمرت الأولى موجودة مع الحكم السلمي وكضاحية للكوفة حتى اختفت تدريجياً.
الكوفة
كما ذُكر، فقد تأسست مدينة الكوفة في عام 638 وأصبحت عاصمة الخلافة الإسلامية في عهد الخليفة الرابع الإمام علي. و كانت المدينة بمثابة بوابة العرب إلى الشرق، وكانت ثاني مدينة أسسها المسلمون.
و بعد تأسيسها، تم تخطيط مدينة الكوفة بالكامل من خلال تحديد مركز المدينة، التي تضم المسجد الرئيسي، والسوق، وبيت الإمارة، أو قصر الحاكم. ومن خارج هذا المركز، تم تحديد عدة شوارع تؤدي إلى أطراف المدينة، وضمت فيما بينها مناطق مخصصة لقبائل مختلفة، تشكل أحياء الكوفة. كما تم تخطيط مناطق وأراضٍ أخرى لأغراض مختلفة، بما في ذلك منازل النخب، والمساجد، والمقابر، وغيرها من الأغراض .
كانت الكوفة مختلفة عن الحيرة؛ فقد تم تصميمها وتخطيطها قبل التوسع الطبيعي وفقًا لتلك التخطيطات، بينما نمت سابقتها، الحيرة، بشكل طبيعي دون أي إطار رسمي.
ومن الناحية المعمارية، اشتهرت الكوفة بقصرها ومسجدها الرئيسي الذي لا يزال قائماً حتى اليوم، بعد عدة جهود من الترميم وإعادة البناء على ما يبدو. ومن خلال عمليات التنقيب المختلفة، نعلم أن المسجد الحالي مُقام على نفس الموضع الذي تم بناء المسجد الأول عليه.
وقد اكتشفت عمليات أخرى القصر المجاور للمسجد، والذي يمكن زيارته لمشاهدة الآثار المتبقية التي تقدم دليلاً على المجد الذي وصلت إليه المدينة سابقًا. و بخلاف هذين المعلمين، لا يوجد الكثير من الأدلة المادية على بقية المدينة. ف جميع المعلومات المذكورة حتى الآن تم جمعها من النصوص التاريخية والتقليدية.
وقد لعبت الكوفة دورًا مهمًا جدًا في المنطقة – حتى إنّ إنشاء بغداد لاحقا لم يؤثر على مكانتها الجيدة. وإلى جانب البصرة، أصبحت المدن الثلاث مراكز إقليمية مهمة استقطبت الشعراء واللغويين والعلماء. و في الكوفة، نشأ أشهر خط عربي، الخط الكوفي، كما نشأت أيضا مدرسة الكوفة التي نافست البصرة وبغداد .
وعلى بعد بضعة كيلومترات إلى الغرب من الكوفة وحوالي القرن الثامن، بدأت قرية صغيرة تظهر باسم النجف. وحوالي القرن العاشر، بدأت الكوفة تتلاشى بعد أن فقدت سيطرتها الرئيسية على البوابة العربية إلى آسيا، وضعفت حكومتها المركزية في مواجهة العديد من الغزوات، مما أدى إلى التخلي عنها في نهاية المطاف.
مع هذا السياق التاريخي، يمكننا أن نفهم أن النجف هي مجرد نتيجة لاستمرار التطور الطبيعي في المنطقة. و من الناحية المعمارية، نحن على يقين من الروابط التي تربط المدن الثلاث: الحيرة والكوفة والنجف، حيث تتداخل وتتجلى في الأبنية التاريخية القليلة التي لا تزال قائمة حتى اليوم في وسط مدينة النجف.
من هنا، سنفحص واحدة من آخر المدن المحفوظة في العراق: النجف. إنها مثال على التحول الذي تعاني منه جميع مدن العراق، فهي تقف بين حاجة الحداثة والاعتبارات الاجتماعية التي سادت في المنطقة لفترة طويلة.
و تكمن المخاطر في الطريقة السريعة وغير المدروسة التي يحدث بها هذا التحول، مما يؤدي إلى تنظيم فوضوي للتخطيط الحضري للمدينة وتشويه العمارة بطريقة يتوقع الكثيرون أننا لن نتعافى منها أبدًا. و من خلال سلسلة حول: النجف، سنستكشف النجف من خلال عمارتها مع تحليل مقارنة حضرية للمدن الثلاث مع التركيز على مدينة النجف.