يعد الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل بقاءه في هذا الكون، بعد موته، إنما يتأمن من طريق بقاء مدينته واستمرارها. ترد هذه الملاحظة العابرة في كتابه ” فن العمارة” ولدى تأملها برؤية عميقة يأتي السؤال: ماذا يفيد الإنسان الفاني من بقاء مدينته واستمرارها من بعده؟ لماذا يحرص هذا الكائن على تعمير ما هو أبعد من مدى وجوده في هذا العالم؟ ربما تعود الإجابة على هذا النوع من الاسئلة إلى الفلسفة مرة أخرى، فهذا أفلاطون يخبرنا: إن أصل المدينة منغرسٌ في حاجاتنا وموجودٌ في عدم اكتفاء الفرد بذاته.
ويخبرنا أرسطو من جانبه: تأتي المدينة إلى الوجود من أجل العيش، ولكنها تبقى في الوجود من أجل العيش الكريم.
والمدينة بهذا المعنى، هي الإنسان وعمارته ونمط حياته ولقاؤه الأول بخصوصية مأواه، أو هي الفرد وشكل الفراغ الذي شكَّله ليعيش بداخله وفقاً لمزاج الطبيعة وتقلبها، وتكشّف المواد المتاحة من حوله على هيئة أدوات ضرورة.
وهذا الشكل الخاضع لتلك المعطيات، مضافاً إليها عبقرية الفنان المعماري في تصوّر أفضل الحلول، يحتاج إلى حراسة، ويحتاج إلى ذاكرة تنقذه من النسيان. وهذه الحراسة وتلك الذاكرة تستلزم فن انتباه فريد من نوعه، من ذلك الانتباه الذي يقرنه مارتن هيدغر بمعنى الرعاية، بمعنى إنك تنتبه لترعى وتهتم.
المدينة التي ولدت فيها، وأنتمي إليها، والتي يهمني بقاؤها واستمرارها من بعدي، هي بغداد دون ريب. حين أتأمل فكرة حراستها من النسيان أو التلاشي، تحت ضغوطات خارجة عن فكرتها، فأنني أتذكر في الحال خالد السلطاني، ذلك الفرد الدائم الانتباه؛ العقل اليقظ والعين المتنبهة الشديدة الحذر، وهي تمسح طبقات الغبار عن العمارة البغدادية، وتتيح لها إمكانية أن تتكشف أمامنا بوضوح مهيب.
يقضي جلّ حياته هائماً بين الدروب والمنعطفات والزوايا التي جرى نسيانها في الجوانب المعتمة من المدينة. ليبث فيها الحياة من جديد، ويمنعها من الهزيمة أمام الموجات الطارئة على جوهرها.
إذن، أنا بصدد الكتابة عن هذا الأستاذ، الرجل الذي منه تعلمت شخصياً أبجديات ممحوة عن مدينتي، ومن بحوثه في الجينالوجيا المكانية، تعرفت على سنوات تأسيسها منذ خرائطها الأولى وأسوارها المتداعية، ومنذ أن شُرِّع أول قانونٍ لتطويبها قبل قرنين من الزمان.
قلت مرة عن أحد كتبه، إنه ليس كتاباً، أنه حدث، وكنت أعني ذلك بقوة، لأن ذلك الكتاب كان حدثاً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. إن كتاب عمارة الحداثة في بغداد- سنوات التأسيس، وطنَّ العمارة المحلية في الذاكرة العامة، وحصّنها من هزيمتها الماحقة التي هي على وشك أن تحدث.
فاذا كانت رواية يوليسيس لجيمس جويس، تخبئ بين سطورها شفرة مدينة دبلن، حتى قيل إنها لو محيت من الوجود، فسيعاد بناؤها انطلاقاً من جولتي بطليها ليوبولد بلوم وستيفن ديدالوس في الرابع من حزيران ١٩٠٤، فإن صورة بغداد الحداثية مخبؤه في عدسة خالد السلطاني وكتاباته، وإننا سنعثر على روحها المندفعة الثورية الحماسية بولعها بنمط العيش من الداخل في المؤلفات الأربعة لمعاذ الألوسي.
هذا هو خالد السلطاني، الذي يبدو لي كشخصية روائية تجوب المدينة، وتتحدث عن أهم معالمها الشاخصة، والتي هي عرضة للأفول بسبب الإهمال وقلة الانتباه.
ماذا عن خالد السلطاني الناقد والمؤرخ لفن العمارة بشكل عام، ذلك الكاتب الملهم الرشيق العبارة، الذي يطوع أصعب الطروحات النظرية ويبسطها أمامنا بكل أريحية ونحن نتابع معه رحلة تطور العمارة الدولية وعمارة الحداثة وما بعدها، ليعود بنا الى العمارة الأموية والإسلامية بجهد شخصي لا تقوى على إنجازه حتى المؤسسات التي تتصدى لذات الوظيفة.
كيف تصادف أن تكون بغداد – على فقرها المعماري – صاحبة أهم مدرسة معمارية في المنطقة، وكيف تصادف أن يولد من هذه المدرسة ناقد فذ وملهم مثل خالد السلطاني، هل هي مفارقة بغداد وسحرها الأسطوري وقوة انبثاقها المفاجئة في التاريخ؟!
نستطيع أن نقول نعم بكل راحة ضمير، إذا تأكدنا إنه ليس لهذا الرجل من نظير بيننا. فهو حالة فريدة وذات متقدة ومنتبهة تسعى إلى الجمع بين التأريخ والتدوين والنقد الذي يبتعد عن أي قسوة، بل هو أقرب إلى اللطف منه إلى تعرية “الأخطاء” ولعله من أولئك النقاد الذين يؤمنون بعدم وجود قبيح دائم في فن العمارة (أضع هنا خطأً تحت كلمة فن) فحتى الأبنية القوطية التي وصمت بالبربرية المعمارية، هي الآن رمزيات شاخصة توزع جمالها المميز في فضاءاتها.
من الضروري أن تكون للمدن هويات معمارية تخصها، ومن الضروري أيضاً، أن يترافق ذلك مع وعي بهذه الهوية، ولهذا الوعي ذاكرته التي نادراً ما تأتي على هيئة إنسان مستوحش يشهد سنوات غروبها فيحتفظ بصورتها في خزائن المستقبل.
لعامه الثمانين، لكل تلك السنوات التي كانت المدينة في غفلة عن نفسها وكان المستيقظ بين ناسها وشوارعها، نوقد شموعاً مضيئة، لا يشبه ضوء فتيلها سوى ضوء حروفه التي وجدت من أجل بقاء مدينتنا واستمرارها.
كل عام وهو البطل الجوّاب في روايتنا المعمارية الخالدة. في الازمنة الضبابية، في سنوات العتمة، لطالما يأتي النور على هيئة فرد ينوب عن وجدان مدينة كبيرة بحجم عاصمة.