من البديهي تصور أن الحوار المعماري يكون عن طريق الرسم أو بطريقة فنية، لإظهار قيمة المنتج المعماري بطريقة تعكس المستوى الثقافي للمصمم وصاحب العمل أو حتى المدينة ومشهدها الحضري. لذلك نعتمد على منتج المعماري الممارس أو المخطط الحضري، ونحمله مسئولية الحفاظ على جماليات مدننا وروحها وشخصيتها، التي تطورت عبر تراكم طبقات التاريخ.
ولكن في زمن “العبقرية المشاعة” يمكن أن يصبح أيَ شخص “عبقرياً” باستخدام التكنولوجية المتطورة والشائعة، وغالباً ما ينتهي الأمر بهاوي الرسم أو الذي يتقن تطبيقات الإظهار المعماري بتحديد طريقة معيشتنا ومشهدنا المديني.
هنا تفقد الرسومات والأعمال المعمارية الجيدة قدرتها على التصدي للتلوث البصري وتصحيح المسار، لذلك تتضح معها وتظهر بشكل جلي، أهمية الفكر التنظيري والنص المعماري الناقد والوصفي لمواجهة التلوث البصري، وذلك لتحديد مكامن الخلل في العلاقة ما بين العمران ومتطلبات المجتمع المادية وغير المادية.
للأسف وفيما يخص المحتوى الخاص باللغة العربية، غالباً ما نجد أن النص المعماري والفكر التنظيري خافت الصوت، لأسباب كثيرة منها غياب اهتمام أصحاب العمل (الزبون) بالذوق العام، وبالتالي عدم اهتمام المعمار نفسه. وإن وجد نقاد ومنظرين يستحقون التصدي لهذا التلوث فهم يفضلون كتابة النص المعماري باللغة الإنكليزية، فيقتصر وصوله على مجتمع مختص فقط بالنقد والكتابة، مما يجعلهم أقل تأثيراً في مجتمعاتهم. بالإضافة لوجود مشكلة مركزية في النص المعماري العربي الناقد وهي شخصنة النقد، أي انتقاد شخص المعمار أو صاحب العمل بدلاً من المنتج المعماري وإضاعة فرصة الاستفادة والتعلم من التجربة النقدية وتطوير المنتج الثقافي.
اكاديمياً تتضح أهمية النص المعماري النقدي أو التحليلي منذ مرحلة قبول الطلبة في كليات العمارة الطليعية، التي تعتمد نظام مقابلة والاطلاع على أعمالهم (portfolio) بدلاً من امتحان الرسم المستخدم في العديد من جامعاتنا، في هذه المقابلة يطلب من الطالب عرض رسوماته وتخطيطاته التي تظهر إدراكه الفراغي وكتاباته الوصفية أو النقدية وخاصه النقد الذاتي (personal/self-reflection)، وفي الكثير من الأحيان ما يقدمه الطالب كنص مكتوب يكون بأهمية أو حتى أكثر أهمية من أعماله الأخرى من تصوير ورسومات واستخدام لبرامج التصميم. أما في الدراسات العليا والبحوث الأثارية والتاريخية، غالباً ما تستخدم النصوص التاريخية، حتى غير المعمارية منها، لتَصور شكل المكان وتخطيطه. فهنالك العديد من النصوص التي تقوم بتوثيق حوارات أو قصائد حصلنا منها على تصور بشأن تفاصيل، لمكان ما يشبه تصورنا لمدينة أوروك في ملحمة كلكامش أو وصف المؤرخ الإغريقي هيرودوتس لبابل.
وفيما يخص النصوص المعمارية القيمة، فبعضها صعب الاقتناء لندرته، والآخر يتعذر علينا شراءه، لارتفاع قيمته الشرائية، والأمر مشابه في حالات عده لكتب التنظير والنقد. وعند بحثنا عن نص معماري متوفر للجميع، نعثر على كتابات خالد السلطاني، فهي تمثل الفكر التنظيري الأكاديمي، الذي يشكل نقطة تحول في النص المعماري الرصين أكاديمياً، ونقطة التحول هذه تصب في فكرة سهولة الوصول والحصول على النص، الذي لعبَ دوراً في تثقيف العامة من قراء الجرائد والمجلات وإطلاعِهم على المنتج الثقافي المعماري من خلال كتابات السلطاني.
في قصة طريفة أنقلها عن الأستاذ السلطاني، يعرج فيها على أول مقال نشره في جريدة التأخي في 18 حزيران 1968 بعنوان “قصة الخيال في العمارة”، ويقصد هنا حضور “التصور” والرؤية” و”الإبداع” في المنتج المعماري. لكن قراء عديدون فهموا العنوان كالآتي (قصة “الخيّال” في “العِمارة”) والتي تشير الى “قصة الفارس في مدينة العِمارة” وكان البعض منهم يتساءل: لماذا خالد السلطاني، يذكر فارس العِمارة وهو من أبناء مدينة الصويرة؟! هذه القصة، تبين لنا المسافة التي قطعها السلطاني في حملة التثقيف المعماري وإشاعة المصطلحات التي أصبحت معروفة ومستخدمة وجزءاً من حديثنا اليومي.
أنا كخريج للهندسة المعمارية من جامعة بعيدة عن دائرة تأثير الفكر المعماري العراقي، كانت مقالات الدكتور خالد السلطاني، هي مدخلي للعمارة العراقية والاطلاع ليس فقط على وصفية المنتج المعماري بشكل دقيق وإنما تجاوزته إلى استعراض تجربة المعمار التصميمية والفكرية. ولعل من أهم النصوص التي كتبها في مقالات منفصلة ثم توسع فيها لاحقاً في كتابين عن عمارة الحداثة العراقية، في مرحلتها التأسيسية. هذه الكتابات درست وحللت الظروف التي شهدت التغير الطارئ والظاهر.
إن عمارة الحداثة التي نعرفها الان لم تأتِ على قطيعة مع ما سبقها، وإنما بتطور تدريجي وتجريبي، ثم ان المحاولات التي أفرزت لمعة الإبداع في تلك الفترة أصبحت مؤثرة في مرحلة ما بعد التأسيس.
قد لا أكون أحد طلبة الدكتور خالد، الأكاديمي المحبوب، ولكني وبحكم العلاقة التي تجمعنا من خلال جائزة تميّز، تعرفت على الشخص الذي يمكث وراء هذه النصوص، واكتشفت سبب اختلاف نصه، عما اعتدنا عليه، وهو أن نصوصه التي تتسم بالتحضر وقبول الآخر وبلغة أكاديمية رصينة، هي انعكاس واضح لشخص تقدمي الفكر، ودؤوب في البحث عن التماعات الإبداع في المنتج المعماري في مراحل تحوله المستمرة. وإن وجدنا أن بعض نصوصه النقدية قد تكون صعبة الهضم على المعماريين، ولكن تقع على المعماري مسئولية اجتماعية، تفرض عليه الاستماع إلى النقد والتعامل معه.
في ثمانينية الدكتور خالد السلطاني والتي تصادف ذكرى مرور 53 عاماً على أول نص معماري كتبه، ونصف قرن من إثراء مكتبة العمارة العربية والعراقية بالنص المعماري وبدون انقطاع، أقول له أن فكرة مدننا الحديثة زائلة، بسبب الترييف والتشويه المنتظم لا محالة، ولكن كتاباتك المعمارية ستكون ذاكرة هذه المدينة الحديثة غير المرئية، وأن وجودك بمثابة الضوء الذي ينعكس على رقعة سحرية مثل بغداد، هو الكشاف الحديث الذي تنكشف معه المدينة، ووعينا بفكرة تحققها. إن الوعي الجمالي يحتاج دائماً إلى قوة متعالية، تغير وجهة الضوء الى الأماكن الأشد غموضاً فيه، وهذه القوة يمكنها أن تكون كثيرة الشبه، بتجربة فريدة كتجربة خالد السلطاني، المعماري الذي يتعالى على البنيان فقط من أجل أن يشتمل الصورة كاملة، ولكنه، يتماهى مع نصه وقراءه وتلاميذه، مثل نسيج غاية في التماسك والمتانة.
أحييك، تحية التلميذ والقارئ، الذي استطاع أن يتعلم بفضل تواضعك، أن المعرفة لا تحتاج لقطع مسافات بعيدة من أجل حضور واحدة من محاضراتك في بغداد، كنتَ أنتَ بغداد التي تزورنا في بيوتنا الصغيرة والبعيدة.
دمت بخير وبمنتج غزيز.