للمساجد في المدن الإسلامية مكانتها، فالمسجد هو المبنى الأهم في مدن الشرق الأوسط ومناطق أخرى ذات الأغلبية المسلمة. تأتي مكانة المسجد تاريخياً من كونه دار عبادة للمسلمين، ومعمارياً وسياسياً واجتماعياً لأسباب أخرى تأتي كلها نتيجة للسبب الأول، المقالة تتحدث عن معضلة مكانة المسجد في مدن الشرق الأوسط في القرن العشرين.
تجاوز المسجد مكانة دار العبادة فقط، فتاريخياً المبنى يمثل المدرسة الأولى أيضاً، ودار قضاء، ومأوى للمشردين، ومركزاً اجتماعياً، ومركزاً حضرياً يمثل لب المدينة التي تجتمع حوله كتل المدينة الأخرى، أما معمارياً فمعلوم أن المسجد أكثر مباني التاريخ تجريداً، وكل عناصره الأساسية (المئذنة، المحراب، القباب) ليست أساسية حقيقة، وكان المسجد الأول خالياً منها جميعاً، والصلاة تصح في الفلاة كما تصح في غرفة، ما يجعل المسجد مجرداً ليصبح فضاءً فقط.
وخلال القرون الوسطى تطور المسجد ليتم تصنيفه إلى ثلاثة أنماط رئيسة: العربي، والفارسي ذي الأواوين، والعثماني ذي القباب، وما لحقها من أنماط مشتقة كالمغولي والسلجوقي وغيرها. في القرن السابق، وبعد مجيء الحداثة انفتح المجال أمام المعماريين لينتجوا أشكالاً مختلفة لا ترتبط بإحدى الأنماط السابقة، وظهرت مقترحات منها ما كان مبدعاً على مستوى التشكيل المعماري ومنها ما كان سيئاً، فالمبالغة في أحجام العناصر، وتفتيت قاعات الصلاة بما لا يناسب وظيفة الصلاة، والتلاعب البصري بالأشكال بما لا يناسب مكانة المسجد، كلها مشاكل معمارية يعاني منها المسجد الحديث.
لكننا لسنا بصدد مناقشة مشكلة المسجد المعمارية اليوم، فهذه مسألة أخرى وتحتاج لدراسة وتحليل طويل، وإنما تحاول المقالة للتطرق إلى مشكلة أكبر تتجاوز العمارة إلى السياسة والمدينة والمجتمع، والتي قد يكون حلها خارج إمكانات المعماريين.
منذ عدة عقود بدأت الدول تتسابق في بناء المساجد الضخمة، ولا ضير في بنائها ولا نقاش هنا حول أشكالها أو جدواها الاقتصادي، وإنما حول الطريقة السيئة التي يتم فيها وضع المسجد الجامع ضمن المدينة. تنتخب الدولة مكاناً معزولاً بعيداً عن الكيان الحضري للمدينة، لينعزل المسجد عن الحاضنة الاجتماعية والتكتل الحضري، ويصبح معلماً سياسياً أكثر من كونه “المسجد الجامع” للمدينة، ويمكن ملاحظة العديد من الأمثلة من خلال الصور الجوية لمعرفة التأثير التدميري لهذه السياسة.
على سبيل المثال، مسجد الجزائر الأعظم في الجزائر، والذي يفترض أن يتسع لـ 120 ألف مصلٍ، يقع على طرق سريعة وقريباً من البحر، ولا يوجد حوله من الكتل السكنية والتكتلات البشرية ما يكفي لإدامة المسجد أو ملئه، إلا في المناسبات التي تأتي مرة أو مرتين في العام، ومثله جامع السلطان قابوس في العاصمة مسقط، والذي ينبغي أن يتسع لـ 20 ألف مصلٍ، والذي صممه المعمار محمد مكية، هو الآخر يقع على حافة البحر يزين منظر المدينة عن بعد كقطعة زينة.
مثال أفضل قليلاً ربما مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب في الدوحة، والذي يتسع لـ 30 ألف مصلٍ، وهذا أيضاً قريب من ساحل البحر لكنه محاط نسبياً بالتكتلات البشرية التي يمكنها التعبد فيه، وأسوأ منه في الموقع جامع الشيخ زايد في أبو ظبي والذي يتسع لأكثر من 40 ألف مصلٍ، هو الآخر يقع على البحر، ورغم أنه لا يقع مباشرة على الساحل، فإنه محاط بالممرات والقنوات المائية التي تقطع العديد من محاور الوصولية إلى المسجد، ولا يُعرف ما فائدة المسجد الضخم في موقع يصعب على الناس الوصول إليه. أحد أكثر الأمثلة استفزازاً مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، وهو من المساجد الضخمة التي تتسع لما يقرب من 100 ألف مصلٍ، هذا المسجد يهرب من الناس هروباً واضحاً، ليجلس على صخور على البحر، يتأمل السفن كأنه ميناء أو برج مراقبة.
تنتقل حمى (المسجد المعزول على حافة البحر) إلى مدن ومناطق أخرى وإن لم تمتلك سواحل بحرية، فيصل مسجد في إسلام آباد أحد أضخم مساجد العالم، ويتسع لما يقرب من 300 ألف مصلٍ، يقع على شارع رئيس يفصل بين المسجد وحوله، فإلى الجنوب منه نسيج حضري كثيف يخدم المسجد، أما النصف الآخر فهو غابات وجبال خالية من أي وجود بشري، فإن كان الساحل البحري غائباً، يمكن إبعاد المسجد إلى الغابات والجبال.
مؤخراً افتتح الرئيس التركي جامع جامليجا في إسطنبول، ليكون أحد أكبر مساجد تركيا ليضم 63 ألف مصلٍ، وهذا المسجد بني وسط مدينة إسطنبول، ولم يتم عزله ببحار أو غابات، ولكن هذه المرة تم رفعه على تلة عالية لينافس معابد الأكروبولس في أثينا ويرتفع عن الناس حوله. أنتهي بمثالين ملفتين أيضاً من مصر، الأول مسجد الفتاح العليم، والذي يفترض أن يتسع لـ 17 ألف مصلٍ، هذا المسجد وسط الصحراء بكل ما في الكلمة من معنى، ولا يصلي فيه معشار الرقم الذي يتسع له، والمسجد بانتظار المتعبدين ليسكنوا العاصمة الإدارية وقصورها الفارهة. الثاني مسجد مصر الجديد، والذي يتسع لأكثر من 100 ألف مصلٍ، وهو الآخر بعيد عن الناس، ويقعد على مرتفع، وللصلاة في هذا المسجد مشقة كبيرة، فما بين الأدراج العديدة للصعود وحر مصر القائظ، يحتاج المصلي وقتاً طويلاً ليصل إلى قاعة الصلاة، وربما تكون الصلاة قد انتهت قبل أن يصل باب المسجد.
إن للمسجد الجامع مكانته في المدينة الإسلامية، وهذه المكانة تتجاوز المبنى الضخم، أو دار العبادة حتى، فالانفتاح الوحيد في العديد من المدن الإسلامية كان فناء المسجد، حيث تكون معظم الفعاليات الاجتماعية الجماعية، فيه يتزوج الشباب وفيه يُصلى على الميت، فيه تجمع التبرعات للفقراء وفيه يجتمع الناس على موائد الإفطار، فيه يتصافح الناس ويلتقون ويقوون أواصرهم الاجتماعية وفيه تتساقط دموع المحرومين.
يرتبط المسجد بمحيطه بقوة، فالكتل البنائية الصغيرة تحتضن كتلة المسجد بقوة يختفي فيها هذا الكيان الضخم، الدراسات التركيبية تشير إلى أن الأزقة المحيطة بالجامع تمثل أنوية التكامل في المدينة، والدراسات البصرية تؤكد أن المحاور الرئيسة في المدينة تنتهي بالمسجد، والدراسات الإدراكية والمرتبطة بالبحث عن الطريق (wayfinding)، ستجد أن المسجد عنصر أساس في هذه الصورة. من خلال مقارنة تموضع المسجد الجامع تاريخياً ضمن بيئته الحضرية وحديثاً، سنجد الفرق واضحاً، فبالإمكان ببساطة مقارنة المساجد سابقة الذكر بتموضع المسجد الأموي في دمشق، والمسجد الجامع في القيروان، والمراقد في الكاظمية والنجف، وحتى المساجد التاريخية التي تأثرت مواقعها بالتخطيط الحديث كالأزهر في القاهرة.
إن عزل المسجد الجامع عن بيئته الحضرية يؤدي دوراً قوياً في تحطيم صورته الطاغية على المدينة، وإبعاده عن الكتل البشرية التي تقوم على إدامته بصورة دائمة وبزيارات متكررة (خمس مرات في اليوم)، يؤدي بالنتيجة إلى إضعاف دوره في ربط أفراد المجتمع ببعضهم، وإضعاف ارتباط المجتمع بالجامع نفسه؛ وتأخذ كيانات بديلة مواقع أقرب في الأحياء السكنية من المساجد الجامعة، وإن توفرت المساجد الصغيرة ضمن الأحياء السكنية، فإن تحول مركز المدينة الروحي إلى حافة البحر أو أسفل الوادي بعيداً عن موقعه الطبيعي ذو أثر هادم على صورة المدينة اليوم.
تحول المسجد الجامع من قلب المدينة ودار للعبادة إلى متحف أو معلم فني، فالموقع الرومانسي على ساحل البحر أو أعلى الجبل يظهره بموقع الجمال والفخر، ومع الضخامة والأموال المنفقة عليه يصبح رمزاً وتعبيراً عن قوة الدولة ولكن ليس قوة المجتمع. فالمسجد مسلوخ عن أهله والمجتمع لا صوت له في تحديد مكانه بينهم.
وقد يكون للموضوع أبعاد سياسية، فتجمع الناس قوة لهم وتوحيد لأصواتهم، وكثيراً ما كانت المظاهرات تخرج من المسجد في يوم الجمعة، وربما لا تستطيع الحكومات الاحتفاظ بجماهير متحدة تجلس أمام خطيب مفوه، لتُخرج خطبة بليغة الناس على حكومتهم. الحل الأسلم أن يتم عزل المسجد وإبعاده عن الناس، إن اختيار المواقع المعزولة هذه وجهٌ آخر من وجوه الظلم الذي تمارسه الحكومات على شعوبها، في محاولة لتغيير بوصلة الثقافة والمجتمع لتلائم رغبات معينة، وما يزيد المشكلة تعقيداً أن حلها ليس في أيدي المعماريين والمصممين، بل القرار سياسي بالدرجة الأولى، فما يفعل البنّاء والمسجد من القلوب يُرفع، وما نفع علو المئذنة إن كان الأذان لا يُسمع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه المجلة