وأنا أجد نفسي تائهاً بين البلدان أبحث عن حنان، عدتُ إلى خالتي الحنون بيروت طبعاً في لبنان، للصحبة الجميلة، اللبنانية والعراقية. أصدقاء جميعهم دفء يضخون لعطشى الحنان، فإذا بالصديقة فاطمة المحسن الأديبة والناقدة المثقفة، تطلب مني تأجيل السفر ليوم أو يومين، لأن المثقف والأديب الإعلامي “أحمد الزين “يطلبني لإجراء حوار خاص لصالح تلفزيون العربية. إذن، أؤجل، غالي والطلب رخيص، والنرجسية دساسة. وكنت أيضاً بحاجة الى مخاطبة بغداد، بعد أن نجحت – حسب ما أعتقدت – في مخاطبتها في 1988 مع أمل حسين من شارع حيفا في برنامج لقاء مع فنان.
سيدتي فاطمة كيف سيكون اللقاء وأنا في المهجر لا وثيقة ولا صك غفران؟ فأجابت: ابدأ لديكَ السبعينية. للصديق الناقد خالد السلطاني، هو خير من يعرفك ويعريك مهنياً.
في عام 2008 نشر خالد السلطاني بحث بعنوان “غياب الجيل الثالث وحضوره” وثيقة شاملة حول منجزي المعماري. نعم أنا بالعادة أحمل وثائقي معي. برفقة توحدي مع الماكنتوش. “بعدها اكتشف الصديق أحمد الزين بأنني أحمل بغدادي وأهلي معي في هذه الآلة الرعناء”. إذن كانت هذه السبعينية منطلق الحوار.
لكن هذه المقالة في ثمانينية الصديق والزميل خالد السلطاني، هي مجرد امتنان ودعاء له بالصحة والسلامة والنتاج الوفير. من مفردات السلطاني “المنتج الثقافي المعماري”، نعم سأقطع عليه الطريق، لن أتركه يحتكر هذه التسمية لوحده، فإنَ أبا الوليد كان أول من وضع هذه التسمية وهذا التنويه، التعريف بمجموعة منتخبة، انتخبها هو لأمور هو يختارها أيضاً، وعرفها على قراء الصحافة أهل من المعرفة. في البداية كانت له مفردات معمارية ذكرنا بها، واختفت تقريبا مع مرور السنين، ترجمة المدرسة الروسية، “يشِي”، و”تهشيم”، و”المنجز”، وووو.
بدأ خالد بتسعينية جعفر علاوي “العمارة بصفتها مهنة” وهو من كبار المعماريين الرواد، وكانَ السلطاني من المعجبين جدا بطروحاته الجدية في العمارة، وهو شخصية جميلة، عرفنا بها الزميل خالد في مقاله عن تسعينيته. بعد فترة قصيرة توفى الأستاذ جعفر علاوي أثر حادث أليم. لذا وبشكل شخصي استوحشت بعد مقال خالد، سبعينيتي مازحا معاه طبعا، لكنه خطر على بالي!
ثم نشر بحثاً جميلاً مطولاً في ثمانينية رفعة الجادرجي” الحداثة أولا … الحداثة دائماً ” مقالة ثرية جداً، كنتُ اعترضت “صامتاً” على معلومة فيها، ولم أبين رأيي فيها لأحد. لكنني وبعد سنين طويلة وأنا أجد نفسي أمر مرور الكرام على خطأ مشابه شائع، فإذا بخالد ينبري ويذكره، ويصر بأنه هو أول من وقع في هذا الالتباس، أراد ان يذكرني به عندما صححه له استاذي معلمي رفعة في زيارة لخالد له.
وجاءت فيما بعد مقاله عن ثمانينية قحطان المدفعي، في 2015 “التعقيد والتعبيرية في العمارة” مقالة جداً حقيقية، استعرض فيها بعض التنظيرات الجديدة لنا، نحن جيل ما بعد قحطان ورفعة.
أهم ما في كتابتهِ الوافية عن سبعينيتي، هو التنويه عن مجموعة من المعماريين الأفذاذ، من الذين عاصروني ولم يحصلوا على الفرصة التي حصلتُ أنا عليها في ممارستي المهنية.
تعرفت على أبو نيران – نيران خالد، الزميلة بحق واستحقاق، أنا عمها وزميلها، تمارس المهنة من دوسولدورف في ألمانيا – هذه كنية ثانية لأبو الوليد.
تعرفت عليه من خلال ندوة مسابقة جامع الدولة. في مناقشة نتائج المسابقة كان خالد ضد توجهي البغدادي في تصميم الجامع، وكان مستغرباً من منتجي ما بعد الحداثوي، التقليدي الملتزم. اختلفنا الى يومنا هذا، على الرغم من كتابته عن العمارة التي أنتمي إليها، حيث صنفها تصنيفاً علمياً ونقدها فنياً، مما ساعدني كثيراً على إعادة النظر وباستمرار بمنتجي المعماري، وكانت تلك المقالات والبحوث قيمة جدا، وقد يستفاد الطلبة منها لفهم مدرسة من مدارس العمارة البغدادية التي أنتمي إليها.
ومما أجده مهماً جداً بالنسبة لي، في مقالة اخرى التي كتبها خالد السلطاني في جريدة الجمهورية، والتي كانت أول مقالة بعد مماحكته في ندوة جامع الدولة في مقالته الموسومة “هل في الإمكان أحسن مما كان؟” يؤكد على تقديري الخاطئ في استلهام جوامع بغداد القديمة.
المقالة الجديدة كانت حلاوة الصلح، وتأكيد التعارف. التي جلبت انتباه وسخرية الأستاذ الكبير جعفر علاوي، عندما عاتبه قائلاً: ما هذه “التداعيات المستقبلية”؟ هي كلها أربعة “دلگات”، كاتب عليه أعمدة عدة في جريدة الجمهورية؟
وأقولها بحق بأنه كانَ نقداً معمارياً يضيف الكثير، وهو لا يزال في زخم تنظير معهد موسكو المعماري، الذي تخرج منه ثم عادَ الى العراق بعد حصوله على درجة الدكتوراه. كان حقاً تنظيراً يستحق المراجعة. على الرغم من أن المقالة هذه سبقت اكتمال العمل، لكن خالد استشف، أهمية المشروع قبل أن يُرَشح العمل بعد نهايته لجائزة الآغا خان المعمارية.
من البحوث المهمة، مقالة ” داران لمعمار واحد” وهي مقتطفات من مجلة “عمارة” في عددها الثالث 1989.
أكمَلَ خالد السلطاني تنظيره وتصنيفه لأعمالي، ومن ثم وضعها في أطر كنتُ أنا غائباً عنها وبعد ذلك أعلنها جهاراً بأنها عمارة ما بعد الحداثة في العراق في مقالة جميلة جداً، “عمارة ما بعد الحداثة البغدادية” حول مبنى “إيا” في شارع النضال.
نعم نحنُ أصدقاء مقربون تجمعنا عَمّان، مقر التقاء مُهجري المهنة. ولعُنا مشترك في النشر والكاميرات والدردشة المعمارية والفنون، هو ينشر العمل الجاد من تنظير في العمارة وتسجيل الموروث كما في:
مئة عام من عمارة الحداثة
تناص معماري
رؤى معمارية
صباح الخير ايتها العمارة
فعل العمارة.. ونصها
العمارة في العصر الاموي، الإنجاز والتأويل
عمارة ما وراء النهر.
مؤلفات جلها تنظير تعريف للقارئ العربي، هنيئا لنا بمنجزك أبا الوليد، دُمتَ منتجا وبصحة. أتمنى لك وللعظيمة “تمارا” أم الوليد، مرافقة الدرب الوعر. العمر الطويل وكل السعادة في ثمانينيتك الغنية بالعمارة.
تحيات مع تحيات الآلاف من تلامذتك الذين يذكرونك بامتنان وعرفان