كان عام 2020 عام فريد من نوعه، فقد ذكّرنا بأوبئة القرون الوسطى، عندما كان وباء الطاعون يقضي على معظم سكان المدن.
وهو العام الذي رحل فيه رفعة عن هذا العالم، عالم مليء بالأحزان والموت، فقد تلاشت الأفراح وحل الحزن، بعد انتشار وباء “الكورنا/ Covid 19” في العالم. فتخطى الحدود في العالم، إذ لا يعرف هذا الوباء الفرق بين بلد غني أو فقير، وتساوى الناس في الخوف من الإصابة به. فاعتكفوا في بيوتهم، وحلت المكالمات التلفونية محل الزيارات التي كنا معتادين عليها.
خلت شوارع المدن من المارة، وأغلقت المخازن والمقاهي والمطاعم والمسارح والمتاحف، وامتلأت المستشفيات بمرضى الوباء والمقابر بجثث الموتى. وتعطلت الحياة اليومية وحل اليأس بدل الأمل، وتوقف العالم عن كل حركة.
بانت الحياة لي وكأنها بريق من الضوء، فالماضي ذهب وليس هنالك مستقبل، والحاضر تلاشى كما يتلاشى بريق الضوء، وشعرت في الدار بصمت رهيب يحيطني، كصمت قبر مظلم، وهو احساس يبعث على الاكتئاب.
هكذا انعكست هذه الحالة عليّ بالذات، أعيش وحيدة بعد أن كانت دارنا تطفح بالحيوية والحركة. شعرت بالاغتراب الذي يزداد عندما يحس الفرد بالوحدة، ولاحت لي حتى حدائق كنكيتسن وكأنها تفقد روحها بغياب رفعة.
كنا نشرب الشاي سوية في الساعة الحادية عشر صباحاً، وهي الساعة المعينة التي كان يتوقف بها حتى مكتب الاستشاري العراقي لشرب الشاي في بغداد، أو الوقت الذي كان يتوقف به عن الكتابة عندما حكم عليه بالسجن. فشرب الشاي له طقس خاص عند رفعة، يذكرني بطقوس اليابان في شرب الشاي. كان رفعة يشرب الشاي بقدح معين، أبيض اللون، وعلى القدح صورة رسمت بخطوط سوداء رفيعة، وباختزال شديد، لا يزيد على أصابع اليد، لفتاة عارية، رسمها بيكاسو. كان يتأمل خطوطها القليلة، ويتساءل كيف حقق هذا الرجل هذه المعاني الكثيرة، حيث تتضمن طبقات متعددة من المعاني، بهذا الاختزال الهائل. وكيف استطاع من إخفاء طيات متعددة المعاني، ضمن خطوط بسيطة؟ (سوى القول بأننا أمام عبقرية فذة لهذا الرجل).
كنت أجلس حول المائدة معه لتناول الطعام وتدور بيننا الأحاديث المتشعبة، الغنية بالمعلومات والآراء إن كان ذلك عن الفن أو العمارة أو المسرح أو السينما. والآن أحس برتابة الحياة الرهيبة التي احياها والتي لم أستطع الاعتياد عليها أو تقبلها حتى الآن، إذ كنت بعيدة عنها مدى السنين برفقة رفعة.
ولكي ابعد الصمت عني وعن جدران الدار التي تحاول ان تبلعني، اتجهت إلى سماع الموسيقى الكلاسيكية، فأصبحت المرافقة الدائمة لي الآن، فالموسيقى هي الدواء الموقت الوحيد لي، اصغي اليها كما اصغي الى شخص يكلمني. وتذكرني برفعة عندما كان يصغي إلى الموسيقى ويلتذ بألحانها.
أصبحت ممارسة الرياضة عادة متأصلة بي، فأخرج للمشي وأمرّ في الحدائق التي كنت أمرّ بها مع رفعة، وأجلس على المصطبات التي كنا نجلس عليها سوية. استمع إلى زقزقة الطيور، وأنظر إلى الوز والبجع في نهر التايمز.
كما بدأتُ في كنكيتسن في إعادة تنظيم الكتب في غرفة المكتبة بعد وفاته، ووجدت أن رفعة قد قرأ أو أطلع على معظمها، من حيث الإشارات التي وضعها في داخل الكتب التي قرأها، أو الفقرات التي أشرّها بقلم لكي يعود إليها.
فعندما عاد إلى بغداد بعد أن أنهى دراسته في لندن، عاد بعدد كبير من الكتب، التي أصبحت نواة المكتبة في دارنا. وهي الكتب التي قرأها عندما كان تلميذاً يدرس في إنكلترا، إذ كان الكتاب رفيقه، إن كان في الباص أو المقهى أو المطعم.
إذ عندما درس في لندن الهندسة المعمارية في كلية همرسمث، قرر منذ البداية، بالإضافة إلى قراءة كتاب أسبوعياً، عليه على الأقل أن يشاهد مسرحية في الأسبوع، ويذهب لزيارة المعارض الفنية ومشاهدة الأفلام المهمة، بالإضافة إلى الدراسة، فكان مشغول طيلة الوقت، ودأب على تنفيذ ذلك منذ الأسبوع الأول. وكانت معظم قراءاته تنصب في غالبها، على تاريخ العمارة.
كما فكّر عندما عاد إلى بغداد، لكي يكون عراق معاصر، يجب أن يكون ضمن تطور عمارة عالمية معاصرة بطابع محلي. فقرر منذ البداية، في أول دار صممها، (أن يكون طابعها حديثاً يتضمن المبادئ الحديثة وفي الوقت نفسه تعبّر عن الطابع المحلي وتعالج مشاكل المجتمع والبيئة، بما في ذك مشكلة المناخ في العراق).
بعد فترة قصيرة ألقي القبض عليه وقضى شهراً في الموقف، فقرأ خلالها كتاب “ألف ليلة وليلة”، وبدا يتحسس العمارة العراقية وما فيها من علاقة بين الحوش والحديقة بصورة تختلف عما نألفه في العالم الغربي وذلك لاختلاف مناخ وأسلوب العيش.
وعندما عيّن رئيس مهندسي مديرية الأوقاف، كان أثناء فراغه، غالباً ما يذهب إلى زيارة الجوامع، وخاصة جامع “القبلانية” في بغداد، فذكر: (أتمشى في الطارمة واتطلع الى تسقيفها وأتساءل مع نفسي متى سنتمكن نحن المعماريين من القيام بنتاج كهذا له قيمته المعمارية بهذا المستوى الإبداعي الرفيع)، واستمر التساؤل والبحث والتقصي في المواضيع المختلفة التي بحثها جزء مهم في حياته.
وخلال هذه المدة كتبت كتاباً عن رفعة، بعنوان: “رفعة الجادرجي، حياة غنية حافلة بالإنتاج”، بعد أن قرأت معظم كتبه، بل عشت معه وكأنه كان يكلمني من خلال كتبه وأفكاره.
وهذا ما كتبته عنه في مقدمة الكتاب: بعد إنجازي هذا الكتاب شعرت براحة نفسية، واكتشفت جوانب أخرى برفعة. اكتشفت محاسبة نفسه حساباً يصل لدرجة القسوة، والاعتراف بفشله في السيطرة التكوينية في بعض المشاريع التي صممها في بداية عمله: (وذلك لحداثة خبرتي في السيطرة على مشاريع كبيرة تخرج من عالم التكوين الورقي إلى حيّز التنفيذ الحقيقي لأول مرة في ممارستي… في كل سطر كتبته، بل في كل خط رسمته، كانت ثمة مؤثرات… أنا معمار فحسب، اسمع كلام الناس وأنصتُ إليهم، أدرسُ تراثهم، أحزنُ وأفرحُ معهم، بمعزلٍ عنهم ومعهم، أتعّرف على التكنولوجيا المعاصرة، أنا فردٌ متشخّص ومتّفرد وأنا واعٍ في التشخّص الذي أتمتع به واقصده، وبانفراد أقوم بصهر هذه المعطيات وأضع الخطة.).
كان رفعة حر التفكير، له قدرة هائلة على التركيز ودقة في التعبير وحرية البحث والتقصي وقوة الإرادة، مما ساعده على تنظيم حياته ومساره الفكري. يؤمن بما قاله في هذا الخصوص الفيلسوف الرواقي الإغريقي “زينون الكيتيومني Zeno of Citium 334-262، ق.م”، (ليس هنالك من قيد على فكرك. أنت من يضع القيود، حرر نفسك أو اسجنها. في العقل تكمن القوة والجمال، وبرهة تفكير أثمن من كل كنوز الأرض).
سوف يبقى الارث الذي تركه رفعة، إن كان في تصاميمه المعمارية أو الكتب التي كتبها، ملك التاريخ.
لقراءة بقية مقالات العدد الخاص بالذكرى السنوية الاولى رحيل رفعة الجادرجي