لا يكاد يغفل أحد أن المنظومة الثقافية العالمية تسعى نحو التسطيح، في جميع النواحي تقريباً، العلمية والأدبية، والفنية والسياسية. الفن يتقشر إلى حركات متشنجة بلا معنى، وعالم السياسة يفتح المجال أمام المعتوهين وقصيري النظر للتحكم في مصائر الناس، فما حال التوجهات المعمارية اليوم؟
التسطيح يبدأ من أثقل المؤسسات وزناً وأكثرها عقلانية، وهي المؤسسات العلمية، فعملية البحث العلمي التي ينبغي أن تهدف لتحسين حياة الناس، بدأت تتجه لإرضاء الشركات الكبيرة، البحوث العلمية الممولة من قبل مؤسسات صناعية أو اقتصادية لا تخرج عن الهدف المرسوم لها، وكثيراً ما نرى بحوثاً تثبت سلامة منتج ما لنكتشف فيما بعد أن الجهة المنتجة لهذا المنتج هي التي مولت البحث أو الجامعة، أو الأسوأ، أن يكون الباحث شريكاً في الإنتاج، وفي الحقيقة فإن هذه لم تعد ظاهرة فردية، بل تكررت كثيراً لدرجة تضع رصانة البحث العلمي بمجمله على المحك (مثال فاضح ظهر في وثائقي “Inside Job” عن الأزمة العالمية الاقتصادية في العقد الماضي).
أضف إليها أن الجامعات (وهنا نتحدث عن الجامعات العالمية وليست المتواضعة في التسلسل العالمي) تدرب الطلاب لأداء عمليات محددة جداً دون أن تعطي الصورة الكاملة، والحجة في ذلك أنها تنتج أفراداً مفيدين للمجتمع، من خلال تدريب الشباب على مهارات محددة يحتاجها سوق العمل، فيتخرج الطالب مسلحاً بمهارات دقيقة وعميقة بمجال ضيق جداً، ليصبح عتلة صغيرة في آلة صناعية ضخمة، يعمل فيها ليلاً نهاراً دون أن يعرف آلية العمل بالمجمل، ونتيجة لذلك ترى مثلاً أناساً يعملون في مطاعم ضخمة دون أن يعرفوا شيئاً عن الطبخ، فالتعليم تحول هدفه إلى إنتاج آليين متدربين على مهارات محددة يحتاجها سوق العمل بدل أن يكون هدفه تعليم الأفراد واكتساب المعرفة الحرة والسمو بالأدب والأخلاق لبناء مجتمع صالح.
الفن يتعرض للتسخيف بشكل أوضح، فالعالم مليء بالعاهات الفنية، الذين يقدمون أنفسهم على أنهم مواهب خلاقة، وتحولت فنون الغناء والمسرح إلى ابتذال رخيص وهبوط على مستويات الإبداع والأخلاق والحس الفني، فالشعر قوافٍ متكلفة جوفاء، والروايات يكتبها المراهقون والمحترفون جميعاً، وهي الأخرى مليئة بتركيبات لغوية ركيكة وقصص جنسية، وقد فتحت وسائل التواصل الاجتماعي الباب واسعاً أمام الجميع لاستعراض المهارات الخفية، فتظهر صيحات عجيبة لا تتجاوز أن تكون تعذيباً للذهن، هدفها إيصال صاحبها للشهرة، وهو الهدف الذي يصل إليه الكثير، ويصبح معيار النجاح حينها هو مقدار الشهرة والمال المكتسب من الفن المبتذل، وينظر المجتمع لهؤلاء ويصفهم بالناجحين، ويصبح الهدف المنشود للجميع.
تنسل التفاهة إلى أوجه الفنون من بوابات متنوعة، فسلامة اللغة في كتابة أي نص لم تعد مهمة، ما دام المعنى يصل للقارئ، وهذا الادعاء لا يأتي إلا لأن الكتابة الرصينة تحتاج إلى جهد وجدية، وهو ما يعارض منظومة التفاهة الحالية، والحال نفسه في الرسم، فالاتجاه الفني السهل هو الرسم التعبيري ذو الأشكال المشوهة، التي لا يدرك قيمتها إلا أصحاب الذوق العالي!
العمارة إحدى أوجه الثقافة والإنتاج البشري، وهي تتأثر بالظروف السياسية والاجتماعية مثلها مثل أي فن آخر؛ وكما أن سلامة اللغة ليست أساسية للعمل الأدبي، والمهارة ليست مهمة للرسم، فإن التسخيف يصل للعمارة من أوجه كثيرة، ويمكن تفصيل ذلك بعض الشيء.
يبدأ التسطيح في العمارة من مرحلة التعليم، فالجامعات العالمية تفتخر بتخريجها طلاباً متخصصين جاهزين لسوق العمل، فيتخرج الطالب متخصصاً في مادة بنائية ما، أو تقنية من تقنيات حفظ الطاقة، أو مرحلة تصميمية معينة. لا تنتبه الجامعات أو لا تبالي بالنظرة الضيقة هذه، فيتخرج الطالب ويبدأ في العمل كأنه دائرة كهربائية محددة في جهاز الكتروني ضخم، ينظم جزء العمل الدقيق هذا دون معرفة بجوانب العمل المعماري كله، وتصبح العمارة بضاعة أو منتج (product) على خط إنتاج، تنتقل من شخص لآخر حتى النهاية، مثلها مثل السيارة أو أي جهاز كهربائي آخر. إن اختزال العمارة وتفريغها من روحها وإنتاجها كآلة استهلاكية على خط إنتاج أدى إلى إضفاء صفة التفاهة عليها، ليكون إنتاجها صناعياً بعيداً عن المجتمع والمكان. النقد هذا ليس جديداً، فنفي صفة الحرفية عن العمارة وإنتاجها بصورة تصنيعية والآثار السلبية لذلك، نبه عليها منظرون عالميون ومحليون، متأخرون ومتقدمون من وليم موريس في انكلترا إلى رفعة الجادرجي في العراق.
يؤدي اعتبار العمارة سلعة إلى مساوئ هائلة، فيتم تقييمها من نواحيها المادية فقط، ونسيان ارتباطاتها المعقدة بالمكان والثقافة المحلية، ويسوق مصممها لها في المحافل العالمية بإبراز هذه الصفات، ينافس غيره في سوق العمل، فيسوق المعمار عمله وتصاميمه وكأنها تجارة أو بضاعة، ويضفي عليها من المبالغات والتزيينات اللغوية والعلمية لتبدو أعمق من مجرد تشكيل بصري ملفت للانتباه. يستخدم المعماريون المشاهير اليوم مصطلحات مصطنعة جوفاء لإضفاء العلمية والعمق على أعمالهم، لتبدو كأنها صنعة معقدة لا يملك علمها إلا هم، فالمصطلحات المكونة من المقاطع المتعددة، والتي تربط اختصاصات متنوعة في كلمات رنانة، تضفي التعقيد والعلمية، ليست سوى مظهر آخر من مظاهر التفاهة.
تتبع العمارة الموضة والـ (fashion) كأنها قطعة ملابس يمكن تبديلها بسهولة، وهي التي تحتاج لأموال طائلة لإنشائها، وأموال لإدامتها، وقد تبقى في مكانها لنصف قرن أو قرن أو أكثر، تُصعب حياة مستخدميها، وتلوث أبصار أجيال من الناس، وتضعف ارتباط المشاهد بمكانه وذاكرته وتاريخه، تشوه المدينة والصورة الذهنية لها.
من الصعب أيضاً تحديد اتجاه البوصلة الصحيح، فلا نعرف كيف يتم اعتبار مصمم ما عالمياً ونجماً ينبغي للكل اتباعه، في وقت يقوم الإعلام برفع من يشاء وخفض من يشاء، ففي عالم التمثيل مثلاً يوجد العديد من الممثلين الذين يملكون موهبة حقيقية وفناً هادفاً يقدمونه للجمهور، ويوجد أيضاً من المشاهير من لا يملك أياً من ذلك، وكما أن هناك صحافة حقيقية تقدم مواد علمية وتحليلية بمستوى عالٍ، توجد أيضاً صحافة صفراء. إن ظاهرة “الكارداشيانية”، تنتشر في جميع مجالات الفن والثقافة والإعلام، يشتهر فيها أناس لا يملكون أية مادة تستحق النظر فيها، ولا يمكنهم اعتبارهم ناجحين بأي معيار، سوى معيار الشهرة والمال.
يتربع بعض المصممين المعماريين اليوم عروش أفضل المعماريين العالميين، وهم لا يختلفون شيئاً عن كارداشيان وأخواتها، ويفسح الإعلام المجال لهم ويقدمهم للجمهور العالمي على أنهم عباقرة، وتصبح أعمالهم دليلاً يسير نحوه كل ضائع. إن أعمال بعض نجوم العمارة لا تبدو بعيداً عن تلفزيون الواقع، الذي يجلب ملايين الدولارات والمشاهدات، وتقدم المؤسسات الإعلامية والعلمية حتى، هذا القيء على أنه الترياق والدواء لأمراض المدن الحالية، وهي في الحقيقة خالية من أي مضمون ثقافي.
إن تسطيح مبادي العمارة والفنون يؤدي إلى نتائج سلبية، فقطع ارتباطها بالجوانب الأخلاقية والتاريخية وتبسيطها إلى أشكال متراكبة مزينة بمصطلحات تلوي اللسان، تستخف بعقل المشاهد وتسخفه، ويمكن لأي مشاهد بسهولة أن يلاحظ كيف يحشر المعماريون المشاهير لفظات الاستدامة وتطبيقاتها المختلفة في لقاءاتهم وشروح تصاميمهم، وإن لم يكن لها أي تطبيق حقيقي، فقط لأن الآلة الإعلامية شاءت أن تكون هذه هي قضية هذه الفترة، فلا صوت يعلو فوق صوت الحفاظ على البيئة، وإن كان البعض صادقاً في دعواه، فإن الدجالين ماهرون في ركوب الموجات، ولإثبات قدرتهم ومرونتهم على حل جميع أنواع المشاكل وفي جميع أنحاء العالم.
يعرف مشاهير العمارة مشاكل ضواحي مدن الصين وعشوائيات أمريكا الجنوبية ومدن صحاري جزيرة العرب أكثر من أهلها، وتأتي الحلول تتسابق من جميع أنحاء العالم، وكأن المجتمعات هذه بليدة لا تقدر على حل مشاكلها. يتناسى هؤلاء أن العمارة لا تستورد، بل تنبع من رحم التعقيدات التاريخية والاجتماعية ولا يمكن لحل أن ينجح إلا إذا كان نابعاً من الثقافة نفسها، من لغتها وتاريخها، وتقاليدها الاجتماعية وموادها البنائية، أما أن يعتقد شخص أن كتلاً متراقصة مدعومة بأكاذيب مرتبة ولقطات منظورية جميلة، يمكنها أن تجلس غريبة عن سياقها ذي مئات السنين من العمر، فهو حقاً ينتمي لمجتمع التافهين.
مشاهير العمارة يسعون لإرضاء الجماهير بإبهارهم بالمصطلحات المقعرة والأشكال الفارغة، ويصبح نتاجهم سلعاً ثقافية محددة الزمن، ليتم استبدالها بسهولة بسلعة أخرى. من المهم أن يبدو المنتج الرخيص مبهراً وذو تقنية عظيمة ويشتمل على مهارة متقدمة، فلو لم يكن الغباء يشبه المهارة والتقدم لما رغب فيه أحد.
يقوم الإعلام بتقديم التافهين أمام الجميع ويمنحهم فرص الظهور ومجالاً واسعاً لإقناع الجمهور بذوقهم، فيتأقلم الجمهور معهم ويهبط الجميع للقاع، وكما يحصل القتلة على جوائز نوبل للسلام، فإن الجوائز العالمية تزين رفوف مكاتب نجوم عمارة متألقين، لا يملكون من العمق الفكري والموهبة إلا ما يملكه القاتل المجرم من السلام العالمي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه المجلة