حين نودّ الحديث عن إنسانٍ تركَ بصمةً في حياتنا، لن يكون من السهل اختصار الأمر بالكلمات، وحين يكون الحديث عن خالد السلطاني لن يبدو الأمر سهلاً بالنسبة لي. ولكن، ربّما سيكون الأمر أقلَّ صعوبة لو بدأت بالحديث عن أوّل يوم لي في دراستي الجامعية.
كان ذلك في خريف العام 1984 وكنتُ حينها في الثامنة عشر من عمري وقد وصلت قبل يومين إلى بغداد قادمة من البصرة بعد رحلة قاربت الثلاثَ عشرة ساعة في القطار الذي انطلق إلى بغداد من محطّة قطار المعقل. وجدتُ نفسي فجأةً في مدينة كبيرة مزدحمة لا أعرف فيها أحداً، وحين توجّهتُ إلى قسم العمارة في الباب المعظّم لم أعرف أين تقع قاعة محاضرات طلبة المرحلة الأولى التي سأتلقى فيها أوّل الدورس في العمارة، العمارة التي لم أتعلم بعد أبجديّاتها وفكّ رموزها.
بدتْ جدران مبنى قسم العمارة عاليةً أكثر مما هي في حقيقتها، وبدا المكان واسعاً أكثر مما ينبغي. كان الجميع في قاعات الدراسة والصمتُ يخيّم على المكان، وكنت تائهة أدور في الممرات بحثاً عمّن يدلّني على قاعة المحاضرات. من بعيد، رأيتُ رجلاً وقوراً يتّكئ على جدار غرفة السكرتارية ويبتسم لي. استجمعت شجاعتي وخطوتُ باتجاهه طلباً للمساعدة. لم يدلّني الرجل على القاعة فحسب، بل سار معي جنباً إلى جنب حتى وصلناها. شكرتُه بكلمتين وابتسامة امتنان: شكراً عمّو!
هكذا تصورتُ، أن يكون هذا الرجل أباً لأحد الطلاب مثلاً، ربّما أوصلهُ إلى الكليّة وصادف وجوده في المبنى حين رأيتُه. لم أفكّر في احتمال أن يكون أستاذاً في القسم، فأساتذة الجامعات لا يبتسمون في العادة لطالبة غريبة جاءت متأخرة في أوّل يوم دراسيّ لها.
سأعرف اسمه بعد ساعات وسأكتشف أنّه أستاذ في القسم اسمه الدكتور خالد السلطاني، يدرّس الطلبة نظريات العمارة في المرحلة الرابعة. تلك كانت أولى زلّات لساني في الجامعة وأول موقف لم يحسدني الآخرون عليه حين ناديته (عمّو) بدل أستاذ أو دكتور. لَم أكن أعلم حينها هل يتوجّب عليّ أن أعتذر منه أم أترك الأمر وأمضي. سوف ينسى.. هكذا فكّرت مع نفسي، ولربّما إنه نسيَ فعلاً لكنّي لم أنسَ.
في محاضرةٍ من محاضراته الشيّقة في المرحلة الرابعة، وبينما كان يشرح لنا عن عمارة الإنگليز في العراق ويعرض صوراً لبعض أعمالهم بدءاً بالمحطة العالمية للقطارات وسط بغداد وليس انتهاءً بالمجمع السكني لموظّفي المؤسسة العامة للموانئ في حي المعقل في البصرة، كانت فرحتي كبيرة حين رأيتُ صورَ هذا المجمّع بمنازله المتشابهة ذات الطراز الإنگليزي وحدائقه التي تزدحم بأشجار السِدر والبمبر، الحيّ الذي نشأتُ فيه وكبرتُ بين الجدران الآجرّية لأحد منازله.
باغتَني بسؤالٍ أمام الطلبة: هل رأيتِ محطة قطار الكاظمية؟ أجبتُه بالنفي لكنّي أخبرته عن منزلي وعن محطة القطارات العالمية التي أتردد عليها حين أستقلّ القطار لأزور عائلتي في البصرة في نهاية كلّ شهر. لم يقتنع، طلب مني أن أزور محطة قطار الكاظمية وأن أخبره بانطباعي عنها في الأسبوع القادم. في المحاضرة التالية كرّر عليّ السؤال ذاته: هل زرتِ المحطة؟ نعم. وما انطباعكِ عنها؟ ارتبكتُ في البداية، ثمّ قلت: أحببتُ الطابوق المرصوف بعناية وحرفيّة عالية، ذكّرني بمحطة قطار المعقل ورائحة بيتي. ابتسم بسعادة وقال: ستصبحين مهندسة معمارية ناجحة يا فاتن مادمتِ قادرة على استخدام حواسّكِ في فهم العمارة، فنحن لا نرى العمارة بعيوننا فقط بل نشمّ رائحتها ونشعر بها وكأنها جزء من عالمنا، تتغلغل في أحاسيسنا وتغدو بعد ذلك جزءاً عزيزاً من ذاكرتنا.
هكذا كان يدرّبنا على الإحساس بالعمارة، وهكذا كان يتحدّث عن المباني والطرز المعمارية بإسلوبه الشيّق وكأنه يغازل حبيبته. يكفي أنّه كان يأخذنا عبر كلماته في سياحة جميلة إلى مدننا وأحيائها وشوارعها، كما كنّا نسافر معه لمدنٍ عديدة خارج العراق ونكتشف أبنيتها الجميلة التي صنَعتْ هويّتها دون أن نفارق مقاعدنا الدراسيّة أو نحتاج لتأشيرة دخول.
حين التقيتُه صدفةً في أحد شوارع عمّان بعد تخرّجي ببضعة سنين، كنّا غريبَين في هذه العاصمة نتشارك ذات الحزن على فراق بغداد دون إرادتنا، قال لي حينها: لا تحزني، واصلي مسيرتكِ ولا تتخلّي عن أحلامكِ مهما صادفتِ من عراقيل.
ستمرّ الأعوام طويلة قبل أن ألتقيه مجدّداً في عمّان، ولكن هذه المرّة لأشاركه الفرحة بفوزه بجائزة (تميُّز) للشخصية المعمارية الشرق أوسطية ويشاركني فرحة صدور كتابي الأول (شجرة البمبر) والذي كتب له المقدّمة بإسلوبه العذب، ثم سيتجدد اللّقاء بعد ذلك في الإمارات.
كنّا ندور في شوارع دبي لبضعة أيام وكنتُ أرى معه أبنيتها بعيون جديدة رغم أنّي عشتُ في هذه المدينة ما يقارب العقدَين من عمري. كان يشير لبناية معيّنة ويحاول أن يكتشف ويشرح ما كان يفكّر فيه المعمار حين صمّمها. بعد ذلك ذهبنا إلى أبو ظبي لنلتقي الزملاء في (ملتقى المعماريين العراقيين) ولأستمع مجدّداً لإحدى محاضراته عن (عمارة بلاد ما وراء النهر) والتي خصّص لها أحد مؤلفاته الذي صدر في حينه. قضيتُ معه ساعات طويلة مرّتْ بلمحِ البصَر وأنا أستمع لحديثه الممتع عن العمارة والحياة والكتب، ورغم أننا لم نلتقِ منذ بضعة سنين لكنّه معي في كلّ يوم، أراه من خلال مقالاته التي أتابعها بشغف ومؤلفاته المهمة التي تصطفّ في رفّ مميّز في مكتبتي والتي أقلّب صفحاتها وأقرأها بين الحين والآخر.
الحياة تمنحنا مسرّات كثيرة رغم كلّ ما نواجهه من مِحنٍ وعراقيل، ومن المسرّات العظيمة أن يضع القدر في طريقنا إنساناً يصبح مثلَنا الأعلى.. خالد السلطاني، الذي كان (عمّو) في البداية، وبعدها أصبح أستاذاً لا يشبهه أحد، ثمّ تحوّل الأمر إلى صداقة مميّزة ورفقة رائعة.
في آخر لقاءٍ بيننا، وجّه لي دعوة لزيارته في كوبنهاغن حيث يسكن. قال لي أنّها مدينةٌ ساحرة وجميلة وأنني سأحبّها كثيراً لأنها تشبه البصرة! ربما سيتفاجأ الآخرون بهذا التشبيه العجيب، فأين كوبنهاغن المدينة المتطوّرة المنظّمة من البصرة؟ لكنّي لم أتفاجأ، فأنا أفهم ما يعنيه تماماً. المدينة بالنسبة إليه ليست فقط بأبنيتها ونظافتها وتنظيمها، لكنّها أيضاً بأهلها ورائحتها، ولربّما وجدَ هو في كوبنهاغن شيئاً من عبَق البصرة أو حميميّتها. سأكتشف ذلك بنفسي حين يتسنّى لي زيارتها وأتمنى أن يكون ذلك في أقرب فرصة ممكنة.
في عيد ميلادك الثمانين، لن تكفِني الصفحات لأصف ما تعنيه لي، ولن تسعفني الكلمات لأعبّر عن اعتزازي بك وامتناني العظيم لكلّ ما قدّمتَه وما زلت تقدّمه لطلّابك وللوسط المعماري والثقافي عموماً.
شكراً لعطائك الذي لا ينضب، شكراً لكلّ الجهد الذي تبذله لتشارك الآخرين بخبرات السنين وبهذا الخزين المميّز من المعرفة وشكراً للقدر الذي وضعك في طريقي لتكون الشمعة التي تنيره، والنور الذي يمنحني الثقة والطمأنينة والإصرار على العمل والإنجاز.
كلُّ عامٍ وأنتَ بيننا.. كلُّ عامٍ وأنتَ أستاذي وأخي وصديقي الذي أفخر بوجوده في حياتي.