منذ بداية تأسيس مجلس الاعمال العراقي في الاردن عام 2006 حرصت على ان يكون المجلس نواة لمشروع اقتصادي وثقافي وانساني يعكس روح العصر من حيوية وتفاعل بين جيل جديد من رجال الاعمال الذين يدافعون عن ثقافة بلدانهم ويؤمنون بدعم المجتمعات المدنية التي يعملون فيها بقيم تعبر عن الاهداف الانسانية التي بها تزدهر المجتمعات. ومن هنا كانت فكرة اطلاقنا لمشروعنا الثقافي والذي يدافع عن ثقافات العراق وحضارته المتنورة وان نبرز فنون وثقافات الفسيفساء العراقية الجميلة من تنوع جميل متعايش وان نروج لهذه الثقافة في كافة الفنون وان نحافظ على تراث وتاريخ النخبة لتنير طريق الاجيال الصاعدة من مثقفين وفنانين وادباء وشعراء الذين حافظوا وعملوا على ان تضل شعلة الامل تنير درب الانسانية. من هنا تحول مشروعنا الاقتصادي الثقافي الى أكبر برنامج ثقافي عراقي خارج العراق وأثمر عن عدد كبير من المشاريع الثقافية والطليعية التي وجدت بانها مهمة لإنجاز هذا الحلم وان نطلقها من خلال مجلسنا ومنها مشروع حاضنة الاعمال الريادية والتي سميت بمشروع – الشباب قادة المستقبل.
كان لابد لهذه المقدمة لكي ارجع بذاكرتي عن العلاقة المستمرة منذ تأسيسنا عام 2006 مع المفكر العراقي المبدع أستاذ العمارة الدكتورة رفعة الجادرجي الذي كان بثقافته النادرة وبلطفه المعهود يدعم بقوة مجلسنا وبالأخص مشاريعنا التي كانت تخص الشباب.
اعود بالذاكرة لمطلع عام 2008 في لقاء ليلة شتاء بارد في عمان الأردن وفي دار صديقي العزيز يقظان الجادرجي الشقيق الأصغر للدكتور رفعة وهنا يجدر الذكر ان عائلة الجادرجي تسكن في نفس الحي الذي نشأت فيه وتسكن عائلتي حي نجيب باشا، كان بيت الجادرجي في احدى شوارع الحي يسمى شارع طه الذي كان عنوان كتاب الدكتور الجادرجي “شارع طه وهامر سميث: بحث في جدلية العمارة” كان حديثي مع يقظان عن كيف يجب ان يكون التغيير المجتمعي بعد عام 2003 عام التغير الكبير في العراق وكيف ان الهم الوحيد والاهم ان نرتقي بشباب الأجيال الجديدة ليجاروا النهضة العلمية والمعرفية الذي تأخروا عنها طيلة 35 سنة من الحروب والأزمات والحصار في العراق ومن ضمن ما تناولناه أسماء النخبة الطليعية العراقية التي لم يطلع جيل الشباب على فكرها المتنور وكان لابد ان نصل الى ان تجربة الدكتور رفعة هي تجربة ملهمه لابد ان يطلع عليها الأجيال الجديدة المغيبة عن الحداثة والمعرفة.
طلبت من صديقي يقظان باستحياء ان يجد اذا كان الدكتور رفعة الساكن في لندن يرغب بألقاء محاضرة عن العمارة من منظوره الفكري في عمان الأردن، قال لي اتصل به واعلمك النتيجة، لم يطل انتظاري في اليوم التالي اتصل يقظان وقال لي الدكتور رفعة وافق على الحضور الى عمان والقاء المحاضرة وليس له سوى شرط واحد، قالت ما هو؟، اجابني طلب ان يكون ثمانين بالمائة من الحاضرين من الجمهور هم الجيل الجديد من الشباب العراقيين وغير العراقيين الدارسين في الجامعات مرحلة الصفوف المنتهية من كليات العمارة او من المتخرجين حديثا، بعد ذلك حدث كل شيء كالحلم الجميل.
حاضر الدكتور رفعة يوم 16-12-2008 في نادي الملك حسين في عمان الأردن، كانت القاعة تغص بالشباب المتحمسين ليسمعوا ويكتبوا ملاحظات محاضرة قيمة استعرض فيها تطور العمارة الحديثة في العراق للفترة ما بين عام 1953 و لغاية منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، قدم تفاصيل عن اهم اعماله في العراق منها تصميم نصب الحرية في ساحة التحرير في بغداد، كانت القاعة بأكملها صامته تستمتع بحديث هذا المفكر العراقي الإنساني الفذ الذي الف عدة مجلدات في فلسفة العمارة ومنح العديد من الجوائز العالمية، هذا المفكر الذي وجد ان التغير القادم لابد ان يأتي ومن الشباب.
سالت الدكتور في هذه المحاضرة إذا كان من الممكن ان يطلعنا على تصميمة المقترح للعلم العراقي، أجاب طلبي باستعراض ممتع لعدد من اعلام الدول وشرح مفصلا خصائص تصميمة المقترح، المبهج بهذه الأمسية كان من الحضور الأستاذة بلقيس شرارة زوجة الدكتور رفعة وجمع من كبار المعماريين العراقيين والاردنيين ومحبي ومتابعي الدكتور رفعة والقسم الأكبر من الحضور كان طلاب من السنة المنتهية لكلية العمارة في الجامعة الأردنية ومنهم مؤسس جائزة تميز للعمارة المعماري المتألق احمد الملاك وعدد من فريقه الحالي في الجائزة من المعماريين الشباب، واذكر عند منحة درع الابداع كنا قد كتبنا اسمه المعماري رفعه الجادرجي، اعادها لي وقال اسمي يكتب رفعة وليس رفعه، في نفس اليوم صححت الاسم وصححت لنفسي ان يكون دائما اسمه عندما اكتبه هو رفعة، لأنه هو بالحقيقة رفعة اسم على مسمى.
من المحطات المهمة التي كان الدكتور رفعة حاضر فيها هي عندما نال جائزة تميّز للإنجاز المعماري مدى الحياة عام 2015، في هذا العام قرر القائمون على الجائزة منحها للدكتور رفعة في بيته في لندن، قام المجلس بعمل احتفالية في اجتماع للهيئة الإدارية تم في الاجتماع تثمين هذه الخطوة مستعرضا المسيرة المهنية والإنسانية للدكتور رفعة.
احتفلنا في عمان الأردن بمنح جامعة كوفنتري البريطانية الدكتوراة الفخرية للمفكر والمعماري رفعة الجادرجي التي تسلمها في حفل مهيب في الجامعة عام 2015 شارك في الحفل افراد من عائلته ومؤسس جائزة تميز وفريق من الجائزة وكانت لحظات مدعاة للفخر للمجتمع المعماري العالمي وللشعب العراقي.
في عام 2016 كان لنا الشرف باستضافة جائزة تميز مره أخرى في عمان الأردن، في هذا العام تم تنظيم احتفال كبير يليق بجائزة تميز وكانت الجائزة تحتفل بالمعماري العراقي الكبير قحطان المدفعي في هذه الاحتفالية وتكريما للمعماري المدفعي وافق الدكتور رفعة عن طريق جائزة تميز ان نعرض على هامش احتفالية جائزة تميز مجموعة مميزة من الصور التي خص فيها المجلس من كتابه (فوتوغراف رفعة الجادرجي).
يعلم الكثير ان ارشيف الدكتور رفعة تسجيل لذاكرة العراق وفريد من نوعه يضم صور فوتوغرافية باللون الأبيض والأسود، تعكس جزءاً مما قام به الدكتور رفعة من توثيق فوتوغرافي، فقد صَوّرَ المواضيع الشعبية، من الأسواق والطقوس الدينية في كربلاء والنجف والكاظمية، كما صور الطقوس الدينية في جامعي أبو حنيفة والكيلاني، وطقوس الأزديين، جال العراق من أقصاه الى أقصاه، صور الباعة في الأسواق، الحرف المختلفة، الازقة، كما صّور البؤس الذي يرزح تحته أبناء الطبقة الفقيرة، الوجوه المعّبرة للناس البسطاء في الواقع الصعب الذي يعيشونه، إنه تعبير عن عبثية الوجود ولا معقولية حياتهم التعيسة في ضل فقر مدقع، قمنا بتكبير الصور وشاركنا بمعرض مصاحب لجائزة تميز، عرضنا هذه الصور النادرة لجمهور كبير من المهتمين.
احتفالا بتسعينية المعمار الكبير احتفل المجلس عام 2016 بعيد ميلاد الدكتور رفعة أقيمت الاحتفالية على قاعة المجلس حضر العديد من محبيه لهذا الحفل، تم قطع كيكة انيقة كبيره تحمل صورة المعماري الكبير وازدانت القاعة بصور فوتوغرافية التي اختارها الدكتور رفعة من ارشيفه الخاص وكان المعرض تحت عنوان (بغداد في عيون رفعة) وتزامن مع الاحتفالية طبع كتيب خاص عن هذه المناسبة، وبغداد في عيون رفعة هي بغداد بكل جمالها وبؤسها، بغداد التي مرت بعهود من الرخاء وأخرى من التعاسة، التقط لحظاتها الدكتور رفعة بنظرة الحالم من اجل مستقبل أفضل.
احتفالا بتسعينية المعمار بغداد في عيون رفعة
أثر الاحتفالية بعيد ميلاد الدكتور رفعة التسعين وصلتني رسالة موقعة من الدكتور رفعة والذي شكرني وشكر المجلس بلطف بالغ عن الاحتفال بميلاده التسعين، في الرسالة كتب عن برنامجنا الثقافي شهادة نعتز بها قائلا: “هذا التقدير نموذج لتقدير الكفاءات في المستقبل، وهي بادره لم يعتد عليها المجتمع العراقي، نرجو لها النجاح والاستمرار”.
مهما كتبنا عن الراحل الكبير في ذكرى تسعة عقود من حياته الحافلة التي كانت بحق مسيرة معماري رائد ومعلِّم مفكر متنور فذ قل نضيره مها قلنا او كتبنا سوف لا نوفي هذا العالم الجليل حقه، عاش ورحل كبيرا، قال كلمته التي ستضل تنير طريق الأجيال القادمة، الرحمة لروحك دكتور رفعة الجادرجي، كنت ظاهره حضارية إنسانية فريدة.
لقراءة بقية مقالات العدد الخاص بالذكرى السنوية الاولى رحيل رفعة الجادرجي