دعوني ابدأ المقال باعتراف صغير كان الهدف الاول لقراءة كتاب “هكذا مرت الايام” هو فقط للبحث في جوانب حياة المعمار رفعة الجادرجي ومحاولة لفهم شخصيته ليكون هذا مدخل لفهم عمارته ونتاجه الفكري ولكني وجدت نفسي امام تجربة انسانية عميقه تصيغها الكاتبة بأسلوب ادبي رفيع يجعلك تنسى هدف القراءة الاساسي وتبحر معها وكأن ما تكتبه قصه من قصص ألف ليلة وليلة، فقد كانت محطات حياتهم جميعها السعيدة منها والحزينة عبارة عن صراع فكري ورحلة للبحث عن نوافذ الحرية التي يمكن ان تفتح للمجتمع بعيدا عن القيود.
سأتحدث عن بلقيس ورفعة بدون اي تعريف مهني فلا بلقيس كاتبة ولا رفعة معمار، سوف نسبر أغوار الجانب الانساني في حياتهم فقد صنعوا لأنفسهم مسارا خاصا يستحق الدراسة والتحليل فكانا في احيان كثيره وكأنهما يسبحان ضد التيار، ففي مجتمع تغلب عليه العادات والتقاليد والناس يعيشون في أطر محددة، فانه من الصعب جدا ان تشق طريقك الخاص وان تصنع ذاتك التي تريدها انت لا المجتمع، ولكي تكسر كل تلك القيود فانك تحتاج لأكثر من قوة العزيمة والثقافة العالية، انت تحتاج لأنسان يؤمن بك ويسندك في كل المواقف وهنا يظهر تأثيرهما على الاخر.
بدأ مسار حياة بلقيس بوقت غير معلوم فيوم ميلادها مجهول تلك الفتاة التي جاء والدها من لبنان كأستاذ في المدارس العراقية وتنقلت بين عدة مدن مثل الناصرية والنجف والحلة ولينتهي بها المطاف في العاصمة بغداد، فهي عراقية ولم تشعر يوما بالانتماء لغير العراق ولم تعرف غير العراق وطن، اكملت بلقيس دراستها في كلية الآداب في جامعة بغداد فهي لم تجرب اسلوب الحياة الغربي، يقابلها في الجانب الاخر مسار ثاني لذلك الشاب البغدادي رفعة ابن السياسي المعروف كامل الجادرجي والذي انتقل الى منطقة هامر سميث في غرب لندن للإكمال دراسته في الهندسة المعمارية. تمر الايام وكل منها يسير في مسار بعيد عن الاخر تماماُ وعلى كل المستويات الا المستوى الفكري فقد كانت افكارهم يسارية رغم ان رفعة ينحدر من عائلة برجوازية.
اللقاء الاول لهما لا يختلف كثيرا عن لقاء اي شابين في مقتبل العمر ولكن كان هناك رابط بدأ يتشكل بينهما اكبر من الحب فعلاقة القلوب تهفت بمرور الايام ولكن روابط العقول والارواح هي التي تدوم وتعمر طويلا وتنمو بمرور الايام ويبدو أن هذا ما كان بينهما، كل منهما وجد ما يبحث عنه في الطرف الاخر رغم اختلاف الطبقات الاجتماعية وربما اسلوب الحياة، وتشعر من اللحظة الاولى انهما قررا أن لا يفترقا وكما يقول الاديب اللبناني جبران خليل جبران ” ليحب أحدكما الاَخر، ولكن لا تجعلا من الحب قيداً، بل اجعلاه بحراً متدفقاً بين شواطئ أرواحكما” فالعلاقة كانت تكاملية بينهما بعيدا عن ذكورية المجتمع فليس هناك من يأمر ومن يطيع لان كل شيء يتم بالنقاش والحوار وقوة الاقناع، وقف الاثنان معا على نفس الارضية وهذا شيء لم يعتد عليه الرجال في العراق فنحن مجتمع ذكوري بامتياز ليس للفتاة فيه الا ان تطيع اي كان المطاع سواء الاب او الاخ او الزوج.
اختلف ارتباطهما بصوره كاملة عن كل ما كان سائد من تقاليد واعراف فالعصمة بيد الزوجة وهذا امر ربما كان من المستحيل أن يقبل به اي رجل شرقي غير رفعة، هدية الزوج لزوجته لم تكن الا كتاب ” قاموس اكسفورد” اي فتاة غير بلقيس ستقبل بهدية كهذه وخاصة انها تتزوج شاب من عائلة برجوازية. لبست بلقيس فستان اسود في حفلتها وليس ابيض وهو ما شكل صدمة لكل من حضر الحفل عروس ترتدي فستان اسود! لم يكن هناك اي حفل زفاف ولا صورة توثق الزواج لانهما اعتبرا أن هذه الامور شكلية وغير ذات مضمون وربما بكسرهم لهذه القواعد البالية ارادا ارسال رسالة للمجتمع أن ارتباط شخصين لا يحتاج لطقوس او هدايا او ألوان معينه كل ما يحتاجه هو الحب والترابط العقلي والروحي.
دخلت بلقيس عالم رفعة وحياته، هذه الحياة التي كانت مشبعة بالفنون والادب، فكل اصدقاء رفعة او اغلبهم من الوسط الفني والثقافي امثال جواد سليم وفائق حسن وغيرهم الكثير ولكن ما ميز رفعة وبلقيس هو ان حياتهم اصبحت بودقة انصهرت فيها عدة ثقافات وامتزجت ثقافة الغرب والشرق فقد كانا منفتحين جدا على كل الافكار وهذه ميزة قلما تجدها في شخص تربى في بيئة محافظة.
الحياة الزوجية لم تختلف عن حياة اي زوجين في العراق واقصد هنا من حيث التعرض للظلم تارة ولمصاعب الحياة تارة اخرى ولكنهما اختلفا عن غيرهم في طريقة التعاطي مع تلك الصعاب فقد خلقا من كل صعوبة واجهتهم فرصه جديده للحياة منها دخول رفعة للسجن لمدة عشرون شهرا ولكنه لم يكن سجين زنزانة يحاول ان يندب حظه فيها انما استغل الوقت ففي هذا الفترة فقط قرأ رفعة ما يقارب مئة وثلاثة وستون كتاب، الف كتاب الاخيضر والقصر البلوري، وبلقيس ايضا لم تكن اقل عزيمة او اصرار فعبد قرار ايقافها عن العمل في كلية الآداب توجهت لتعلم تنظيم المكتبات .
الحياة تتبدل من حولهم ويتحول المجتمع الذي يعرفونه شيء فشيء الى مجتمع غريب عليهما ويختفي الاهل والاصدقاء الواحد تلو الاخر مثلما تنسحب خيوط الحرير من سجادة فارسية لتفقد شكلها وتتبعثر بمرور الزمن، البعض كان ضحية بطش السلطة والبعض الاخر قرر الخروج من العراق ليحط الرحال في أحد زوايا العالم البعيد وبلقيس ورفعة باقيان في العراق وكأنهما ينتظران ان يسدل الستار على مسرح الوطن.
تعرض والداهما للسجن والتضيق بسبب افكارهما لا أكثر، فأي وطن هذا الذي لا تستطيع ان تعبر فيه عن فكرة تدور في راسك. اي وطن هذا الذي لا يمنح ابنائه الامان ويزرع الرعب في قلوبهم، فحياة المعتقلات والترهيب والمراقبة ليست غريبة عليهما ولم يتغير شيء بعد ارتباطهما.
السفر كان بالنسبة لبلقيس ورفعة مغامرة ورحلة للبحث في الثقافات المختلفة للمجتمعات البعيدة عنا، فقد سافرا لعشرات الدول ووثقا ثقافاتها وحاولا نقل ما يشاهدونه كون العراق في تلك الفترة كان منفتح على كل الثقافات وكانت تزوره العشرات من الوفود الثقافية والاجتماعية فالعالم بعد الحرب العالمية الثانية كان يحاول ترميم العلاقات الاجتماعية والثقافية بعد القطيعة الكبيرة بسبب الحرب والصراعات الفكرية التي قسمت العالم الى معسكرات، ومن المصادفات الغريبة التي رافقتهما في السفر هي الانقلابات والحروب ففي زيارتهم الى غانا عام 1966 حدث الانقلاب على الرئيس نكروما وايضا حدوث الاجتياح السوفيتي لأفغانستان حيث كانا ضمن اخر الوفود الاجنبية التي غادرت البلد .
احدى أصعب محطات حياتهما ربما هي الهجرة من العراق، البلد الذي نشئا فيه واحبا بعضهما فيها وعملا بكل جد ومثابرة كي يكون له مستقبل مشرق ويكون لا بنائه فسحة من الحرية، فليس هناك أصعب من ان تقلع انسان من جذوره وتجرده من وطنه. استقر بهم المطاف في مدينة كمبردج في ولاية ماساشوست حيث عمل رفعة استاذ زائر في جامعة هارفارد تلك الاقامة التي استمرت لما يقارب عشرة سنوات كاملة كان العراق فيها يرزح تحت الحرب العراقية الايرانية والتي ما ان انتهت حتى دخل البلد دوامه اخرى من الحروب، وكان عليهما ان يراقبا عبر شاشات التلفاز وطنهما وهو يتدمر بالقنابل هذه المرة من مدينة لندن حيث حطوا الرحال فيها، الوطن الذي لم يبق لهما فيه شيء سوى الذكريات الجميلة والحكايات التي يتناقلونها حتى تبدو بمرور الزمن كأنها قصص خيالية.
سنوات طويلة من الغربة عاشها معا، ربما تشكل نصف حياتهما معا التي امتدت لست عقود تنقلوا بين عدة اوطان فمنذ عام 1982 وهم يتنقلون بين عواصم العالم للسفر تارة وللإقامة تارة اخرى وكما يقول الكاتب المصري بهاء طاهر “ربما بعد الغياب الطويل في الغربة لا يعود للإنسان في الحقيقة أي وطن“.
بلقيس ورفعة هذان الاسمان سيشكلان جزء من تاريخنا الثقافي وستعيش افكارهم طويلا وسيبقى المثقفون في العراق يتناقلون قصصهم ورحلاتهم ومعاناتهم وستكون قصة حياتهم ملهمة لأجيال قادمة تهوى العيش بحرية وان طال الزمن.
لقراءة بقية مقالات العدد الخاص بالذكرى السنوية الاولى رحيل رفعة الجادرجي