تختنق العمارة عندما تنظر لنفسها في المرآة، لكنها تنتعش عندما تُطل على العالم عبر شُرفة أو نافذة. فالنظر في المرآة يعني تأمّل واختبار القواعد الداخلية، العلاقات الشرعية (وغير الشرعية) بين الأشكال والفضاءات. بينما النظر الى الخارج يعني التفاعل مع عوامل الحضارة المختلفة: قرارات سياسية، أوضاع اقتصادية، تطورات تقنيّة، وما يصاحبها من شطحات فنية وتبدّلات مُجتمعية وغيرها.
رحلة تطورها المتشابكة والمثيرة هي خليط من تداخلات هذه العوامل والأحداث فيما بينها، وللتلذّذ بفهمها، نسعى باستمرار للسفر وزيارة الاعمال، النظر والاستماع، التلمّس والشم، والقراءة عنها طبعا. ومن المهم جداً أن تكون هذه القراءة بأكثر من زاوية، لأن زاوية غير المعماريين غنية وثرية، لكنها تفوّت بعضاً من ماهيتها أحياناً، بينما زاوية المعماريين على العكس، تكاد أن تقترب من تلك الماهية، فينتج عنها صوت أحادي، بعيد بعض الشيء عن صخب الحياة.
قراءتي الأخيرة التي سحرتني وأغنتني بهذا الخصوص كانت في كتاب” تصدّع الجمال الأنثوي: المرأة في المدينة والفن“، للصديق والمُعلّم خالد مطلك (دار الحكمة،2020). فهذا الكتاب وعلى امتداد صفحاته الـ 365، يُقدّم – كما هو عنوانه – رؤية بانورامية (ومنتقاة) عن الجمال الأنثوي. لا الجمال المُلقى في الوجود، بل الجمال المُتحقّق بوعي خاص وغرضيّة تامة (ص187)، والغرضيّة تأتي طبعا من قرار فاعل (أو فاعلة)، يستوحي ويقود مزاج العصر، فيؤثر ويتأثر، وبالتالي تأتي مخرجاته متكاملة مع مخرجات عصره، ومن ضمنها العمارة والمحيط العمراني.
بالطبع، لا يدّعي الكاتب خلال هذه القراءة وجود فرضية يحاول إثباتها منهجياً، بل يُقدّم – على حد وصفه – (ص77):” تأمّلات ناتجة عن تأويل ظاهراتي في إطاره العام للتجارب الحياتية“.
ومن هذا المُنطلق، تتحرّر ثيمة الموضوع، وتتحرّك زمانياً ومكانياً. فيمُر على”فينوسات“ العصر من حيث أثرهن ووجودهن في الفنون، من فينوس أو فيرين الإغريقية، الى آلما ماهلر، وكيارا فيرّاني على الانستغرام، واصفاً المزاج العام، أو شفرة الجمال، بملامحها صعبة الإمساك وسريعة التبدل، كإيماءات الجميلات التي بقيت مُعلّقة في الوجود.
مسرح هذه الرحلة يمتد من بغداد مدينة الأب، والجمال في الباب المُعظّم، الى مانهاتن نيويورك. مروراً بفلورنسا، فيينّا، باريس وبرلين. بهوميروس وبوتشيللي، ولادة بالاديو وجميلات تيتيان المُستلقيات. من عاهرات فينيسيا، وأعمال فيلاسكيز. من الجمال الشيوعي المهاجر بأسراب، الى الرأسمالي المُستغرق بذاته. من فنان الهدم الاول هاوسمان، الى البوهيمية في المدينة. ودون الغرق في حُقب غُطيّت بفيض من الدراسات والمرويات، يتطرّق الربع الأخير من الكتاب الى توتّر الحياة المعاصرة، بأبراجها ومصاعد المدراء الماليين الشباب. فنها المفاهيمي وسينما بريجيت باردو. هوس الجنس، المثلية الجنسية، التفكيكية وجماليات فقدان الشهية.
ورغم مزاعم المؤلف بكونه تأملات وليس فرضية مثبتة منهجياً، لكني لا أراه إلا مرجعاً مهماً لتذوق الجمال وفهم تبدلاته، لأن تلك التأملات مدعّمة بغنى معرفي، وأطر فلسفية. ولذا فالاطلاع عليه واجب لطلبة وممارسي ومتلقّي الفنون والعمارة.
”تصدّع الجمال الأنثوي“ كتاب يُقرأ بأكثر من طبقة (Layer)، لرصد أمزجة المدن، سير الفنانين والمعماريين، نظرياتهم وغرامياتهم، وبورتريهات الجميلات اللواتي دخلن التاريخ، وحكمن الجغرافية:” المدينة التي لا تعترف بفينوساتها مآلها الكآبة المزمنة“ (ص113).
أن ما فعله خالد مطلك أو ”السنيور“ – كما اُحب أن أسميه – في هذا الكتاب الساحر والاستثنائي، إنّه سحب جزءا من العمارة كان أسيراً عن طريق الخطأ في رف الحساب والإنشاء، وأعاده الى رف الشعر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه المجلة