إذا جاز لي، ان أبدي اعجاباً شخصياً بواحد من المباني المصممة من قبل الجادرجي، ولكن من دون الاتكال على معايير نقدية موضوعية، فقط مجرد افتنان شخصي واعتزاز وتقدير لما هو منجز، ولما هو قائم، فان من ضمن ذلك “الأحد” من المباني ستكون “دارة كتخدا” (يكتبها الجادرجي كما يلي: <كة خدة>، وبالمناسبة فان كلمة كَتْخُدَا، كلمة تركية، من أصل فارسي، وتتكون من مقطعين كَدْ بمعنى بيت، خُدا بمعنى الرّب أو الصّاحب. ومعناها رب البيت، لكنها تستخدم بالتركية بمعنى امين الوالي أو وكيله.). تلك الدارة المشيدة سنة 1959، عند ساحة الفردوس بالعلوية في بغداد.
وإذ أبدى اعجابي بعمارة الدارة، فاني اعرف تماما، ما كتبه المعمار عنها، سابقاً، وعن عمارتها، اذ قال عنها في كتابه “الاخيضر والقصر البلوري”، ما يلي “..تم تنفيذ هذا المشروع (دار كة خدة، خلال نفس الحقبة الزمنية لهذا الفصل من الكتاب (يشير الجادرجي الى حقبة الخمسينات؛ خ. س.)، وهو احد مشاريع هذه المرحلة التي <فشلت بها> (التأكيد لي. خ. س.) في السيطرة التكوينية على المشروع” (ص. 79). نستنتج من هذا، بان المعمار (لا يحب) هذا المبنى. وكما طرق الى مسامعي فان “رب البيت” الذي شغله لفترة طويلة لم تعجبه عمارة الدارة، ولم يكن من المتحمسين الى نوع مقاربتها. ومع هذا، فانا أحب هذه الدارة، بل مفتون بها وبعمارتها! اعرف، ايضاً، بان كلماتي هذه، لا يمكن تسويغها، مثلما لا يمكن قبولها أو إيجاد مناصر لها، ما دامت لا تستند على معايير نقدية واضحة!
احياناً، يبدي المرء اعجابه بأمور، قد لا يكون، من السهل بمكان، إيجاد مبررات مقنعة تفسر ذلك الإحساس بصورة موضوعية. اذ قد يكون مصدر ذلك الإحساس راجعا الى عوامل مختلفة وعديدة، ذات صلة بذات المرء المعُجب وبنوعية ذائقته الجمالية، وبتطلعاته الشخصية، وافتنانه الشخصي بأشكال محددة، هي التي تستدعي لديه أفكارا وتصورات ومراحل معينة قد يكون مرّ بها في سيرورة حياته.
معلوم، ان رفعة الجادرجي يقتفي أثر “لو كوربوزيه” في تصميم هذه الدارة. انه يسير على نهجه ومنهجه، ويستعير، كما أرى، لغته التصميمية، التي أبدعها المعمار العالمي في فيلا “سافوي” (1929-31)، Villa Savoye بالقرب من باريس. ومحاولة الجادرجي التصميمية هذه، اراها، هنا، جد هامة، مثلما هي جد طليعية في تلك الاوان من الخمسينات، وفي منتج العمارة المحلية. انها، من دون شك، واقعة نادرة في ذلك المنتج، ما يقتضي ابداء التحية لجهة جرأة المعمار وشجاعة رب العمل في اتخاذ هذا النموذج التصميمي، ليكون دارة الأخير ومنزله السكني. وقد يكون من أسباب اعجابي بعمارة الدارة، هو ذلك الاتكال والاهتمام الذين ابداهما المعمار نحو مقاربة لو كوربوزييه تحديداً، واعتماده على أجمل وانقى نماذج تلك المقاربة الحداثية. ما يفتنني، أيضا، في عمارة الدارة نوعية ذهنية المعمار، الطامحة لتقديم مرجعية معمارية مغايرة في مشهد بنائي ما انفكت ذائقته الجمالية، تستمد قيمها من ما افرزته الفعالية البنائية التقليدية الضاربة في أعماق ماضويتها. كما يثيرني تحدي تلك الذهنية وبسالتها في تقبل قيم تلك المرجعية، والاعتزاز بها، والجهر في اعلان الانتماء اليها، وحث الاخرين للتعاطف معها ومع منطلقاتها.
ثمة لغة تصميمية طازجة وحافلة بالتجديد، تنطوي عليها عمارة دارة كتخدا. فـ “فورم” كتلتها الهندسية الصافية المرفوعة على أعمدة، وسطوح جدرانها الملساء النقية، الخالية من أي اثر زخرفي، و”حفر” فتحات نوافذها الشريطية، وأسلوب حمايتها المناخية؛ بالإضافة الى استخدامات الارتفاعات المزدوجة، والحضور الجميل لـ”شاشة” الكاسرات الضوئية، فضلا على لونها الأبيض الناصع، الذي تزيده نصاعة، “عتمة” الظلال المرسومة بأناقة في امكنة مصطفاة من قبل المعمار؛ كل ذلك يشي بذلك التجديد الطليعي، وبطزاجة “المَبّني”، وبعمارته غير المألوفة. بتعبير آخر، نحن إزاء تجربة رائدة في منتج العمارة السكنية المحلية؛ تجربة، تنزع الى تبديل جذري لمفهوم السكن وتسعى وراء تغيير تراتبية توزيع فضاءاته، وبالتالي الى تحوّل راديكالي لأسلوب العيش فيه، عن طريق خلق علاقات جديدة في التعاطي مع خصوصية احيازه والتكيّف مع منظومتها التكوينية.
ولعل “صدمة” التغيير الجذري، التي “نزلت” بصورة مفاجئة، على “رؤوس” شاغلي دارة كتخدا، عجلت في ظهور إحساس “الاغتراب”، الذي نشأ سريعا، لدى سكنة الدارة نحو عمارتها وتجاه منظومة توزيع فراغاتها، ما انعكس سلباً، على تطلعات المعمار لاحقاً، وعلى اجتهاداته التصميمية؛ والتي قادت في الأخير، الى مثل ذلك “الاعتراف” الصريح والنادر، المثقل بالخيبة، الذي ابداه المصمم عن عمارة الدارة. بيد ان كل هذا (وانا اسعى، هنا، لأكون موضوعيا، متجنبا تأثيرات اهواء الحدس الذاتي!)، لا يمكنه، ان يغيّب أهمية ظهور دارة كتخدا في المشهد المعماري المحلي، وما مثلته من نوازع التغيير، والمقدرة في التعلم من الدرس “الكوربوزيوي”، في إدراك معنى الحداثة المعمارية، والقبول بـ “اممية” قيمها ومبادئها التصميمية. فحضورها البهي في المشهد البنائي، كان ولازال، كما اعتقد، لحظة مثيرة من الابداع المعماري العراقي، مانحة ذلك الابداع “نخبوية”، لم يكن موعودا بها! ورغم كل ما قال ويقال عن عمارة “دارة كتخدا” فأنها، ما فتئت تظل تمتلك تلك الفرادة التصميمية، التي ابانها المعمار المجد، وتبين أهمية الدرس الحداثي، والتعلم منه بلاغة تقبل “الاختلاف” والتطلع الى كيفية الإفادة والانتفاع منه.
عندما أكون في بغداد، احرص على “رؤية” دارة كتخدا، متأملا عمارتها ومعيدا اسئلتي المعرفية عن منجز تلك العمارة وتأثيراتها على سيرورة المنتج المعماري العراقي. ومع جميع أنواع “الإشغالات” المدمرة والجائرة التي مارسها البعض تجاهها (استخدمت كإحدى دوائر المخابرات في النظام السابق، ثم “استولى” عليها <الحواسم>، بعد التغيير، وسكنتها عوائل عديدة، الحقت اضرار جسيمة في بنيتها وفراغاتها)، فأنها ما انفكت تحتفظ بفورمها الحداثي اللافت، وبعمارتها المغايرة مع انساق البيئة المبنية المجاورة. بيد ان “موقعها” المكاني، الخاص، سيجلب لها مصيراً بائساً ومفجعاً. وستزول عمارتها، عاجلا ام آجلا، بسبب التغييرات السارية على نوعية استخدامات الأرض التي تقوم عليها؛ ما لم يوقف ذلك جهة رسمية متمكنة، ترعى تلك العمارة وتحافظ على نماذجها التصميمية الهامة. وهو امر مشكوك في حصوله، ضمن الظروف الحالية التي يعيشها البلد. وقد أخبرني، مؤخراً، أحد “طلابي” بالشروع في هدمها وازالتها (ان لم يكن قد تمت ازالتها بالكامل!)، وهو امر يبعث لديّ على الأسي والحزن (واعتقد لدى كثر أيضا)، لمصير هذا النموذج الحداثي المبكر والهام في المنتج المعماري المحلي.
لقراءة بقية مقالات العدد الخاص بالذكرى السنوية الاولى رحيل رفعة الجادرجي